تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

الولایات المتحدة والمشرق العربی: بیان للاسـتنهاض القومی

یتعرّض المشرق العربی لعدوان أمیرکی وخارجی علیه، یهدف إلى ضرب دوله الوطنیة وتفتیته. کتب باحثون غربیون خلال السنوات الماضیة إسهامات رمت لفضح العدوان. أتاح جهد الأکادیمی البریطانی ریموند هینبوش استعادة مفاهیم وأفکار جرى تجاهلها خلال العقود الماضیة، وتذکیرنا بالأساسیات التی تصلّب الموقف المقاوم.
رمز الخبر: ۶۱۴۶۷
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۳:۴۷ - 15November 2014

الولایات المتحدة والمشرق العربی: بیان للاسـتنهاض القومی

ألبر داغر

یتعرّض المشرق العربی لعدوان أمیرکی وخارجی علیه، یهدف إلى ضرب دوله الوطنیة وتفتیته. کتب باحثون غربیون خلال السنوات الماضیة إسهامات رمت لفضح العدوان. أتاح جهد الأکادیمی البریطانی ریموند هینبوش استعادة مفاهیم وأفکار جرى تجاهلها خلال العقود الماضیة، وتذکیرنا بالأساسیات التی تصلّب الموقف المقاوم.

الولایات المتحدة کدولة مسیطرة

استعاد الکاتب هینبوش فی مقالاته بشأن العلاقات الدولیة وموقع الشرق الأوسط فیها، الصادرة خلال فترة 2006-2014، مفاهیم وأفکار مدارس رئیسیة أربعة، هی الواقعیة (realist) واللیبرالیة (liberal) والبنائیة (constructivist) والبنیویة (structuralist)، وعرّف جملة من المفاهیم الأساسیة، من مثل الدولة المسیطرة (hegemon) والتراتبیة (hierarchy).
الولایات المتحدة هی الدولة المسیطرة منذ الحرب العالمیة الثانیة بعد أن سبقتها إلى ذلک بریطانیا منذ التاسع عشر. تتفق کل المدارس على وجود الدولة المسیطرة، وتختلف على ماهیة الدور الذی تضطلع به، وهل هو سلبی أم إیجابی (هینبوش، 2006 ب: 283). فی النظریتین الواقعیة واللیبرالیة، الدولة المسیطرة أمر إیجابی فی العلاقات الدولیة، لأنها توفر «خدمة عامة» یحتاجها الکلّ. ترکز المدرسة اللیبرالیة على دورها فی توفیر العملة المعتمدة فی التبادل الدولی، وفی جعل التعاون ممکناً بین دول العالم. وترکز الواقعیة على دورها فی حمایة النظام الدولی، من خلال التصدی لدول قد تلجأ بمفردها لمبادرات تزعزع استقرار هذا النظام. تجد هذه الأفکار والمواقف موقعاً لها فی «نظریة الإستقرار النابع من السیطرة» (hegemonic stability theory) التی تسوّقها المدرسة الواقعیة (هینبوش، 2006 أ: 455).
تمارس الدولة المسیطرة دورها هذا استجابة منها لرغبة دول العالم فی أن تمارسه، أی بشیء من العزوف والتأفّف. وهی فی تعاملها مع الآخرین ترید الخیر لهم (benign hegemony). کما أنها لا تتحرّک إلا تجسیداً لإرادة الغالبیة، ومن ضمن المؤسسات الدولیة، أی الأمم المتحدة بالتحدید، ووفقاً لما یملیه القانون الدولی.
 

تصدى الباحثون من داخل المدرسة الواقعیة ومن خارجها، خصوصاً المنتمون منهم إلى التیار البنیوی لهذا التقریظ لدور الدولة المسیطرة. وجد کراسنر أن تدخلها یحصل ضد أحد أهم أسس النظام العالمی الذی أرساه مؤتمر وستفالیا عام 1648، أی مبدأ سیادة الدول على أراضیها. وقد مهّد لهذا الافتئات على سیادة الدول تسامح المجتمع الدولی مع الانتهاکات لها التی أوجبتها الأعراف الجدیدة، وأهمها موجبات «التدخل لأسباب إنسانیة» (المصدر نفسه: 460).
ورأى آخرون أن القاعدة هی أن الدولة المسیطرة تنزع إلى زیادة سیطرتها ولیس الحد منها، وأن ما یردعها هو وجود حالة «توازن للقوى» (balance of power). أی إن «توازن القوى» کعامل تعکسه بنیة النظام الدولی (systemic) هو ما یحول دون عدوانیة الدولة المسیطرة على من هم أضعف منها (المصدر نفسه: 456).
کیف مارست الولایات المتحدة دورها کدولة مسیطرة خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة؟ انتقل العالم من نظام الثنائیة القطبیة إلى نظام الآحادیة القطبیة (unipolarity)، وإلى تفرّد الولایات المتحدة بقیادة العالم (unilateralism). وقد تعاطت هذه الأخیرة مع دورها هذا بوصفها قوة مسیطرة شریرة (malign)، أی قادرة على التسبّب بأذى یطاول الکلّ، یتجاوز «الخدمة العامة» التی تؤدیها (المصدر نفسه: 461).
أشار هینبوش إلى تزاید القائلین بأن الولایات المتحدة أصبحت إمبراطوریة تقوم على القهر (coercitive empire). واستعاد موقف شالمرز جونسون الذی قال إن هذه الإمبراطوریة لا تحتاج إلى أن یکون لها کیان رسمی، وأن قوامها هو النخب والدول المستزلِمة لها على المستوى الدولی، وقواعدها العسکریة المنتشرة فی العالم، وقدرتها على السیطرة العسکریة على المناطق التی تصنّفها على أنها استراتیجیة (المصدر نفسه: 457).

الحرب على العراق وما أثبتته

أعطت الحرب على العراق دلیلاً على هذا التعریف لدور الولایات المتحدة. لم تعد هناک روادع کان یفرضها نظام الثنائیة القطبیة، ولم ترَ الولایات المتحدة نفسها معنیة بأخذ موافقة القوى العظمى الأخرى على ما تقوم به. وافقتها فی مشروعها دول کبرى کبریطانیا والیابان، ومانعت أخرى کفرنسا والمانیا، ولم تؤثر فی قرارها ممانعة روسیا والصین، ومشت دول العالم الأقل شأناً وراءها إما خوفاً أو طمعاً بمکاسب. اتخذت دول محدودة صغیرة موقفاً فی مجلس الأمن مناوئاً للحرب، منها الکامیرون وغینیا وغیرهما (المصدر نفسه: 454). ووقفت سوریا فی نهایة المطاف مع دول قلیلة فی مواجهة الولایات المتحدة. وقد نفّذت هذه الأخیرة عدوانها على العراق رغم تصویت الهیئة العامة للأمم المتحدة ضد الحرب. ذکّر هینبوش بتجربة «عصبة الأمم» التی عبّد عجزها عن منع القوى العظمى من الاعتداء على الدول الضعیفة الطریق إلى الحرب العالمیة الثانیة.
أظهرت الحرب على العراق خطل التنظیر الذی تقدمه النظریة اللیبرالیة من أن التدخل الخارجی للدولة المسیطرة یحکمه القانون الدولی ویفترض موافقة المؤسسات الدولیة. استطاعت الولایات المتحدة أن تفعل ما ترید، من دون أن یثنیها أی رادع. ورأى البنیویون أن ذلک یعکس حالة سیطرة جماعیة لدول الغرب أو المرکز (collective hegemony) (المصدر نفسه: 460).
ما الذی برّر هذا العدوان؟ أرجع هینبوش والمدرسة البنیویة عدوانیة الولایات المتحدة الخارجیة، وعدوانها على العراق، إلى دور السیاسة الداخلیة، أی وجود أطراف داخلیة لها مصلحة فی الحرب، عبّر عنها فریق المحافظین المحیط ببوش الابن. عکس فریق المحافظین هذا مصالح الشرکات الکبرى فی قطاعی النفط وإنتاج الأسلحة، ووجود تیار إیدیولوجی دینی محافظ یأخذ بسیاسة الهویة، أی یستخدم الانتماء الدینی لاستقطاب الجمهور، یمثله صهاینة ومسیحیون أصولیون. وهو تیار لا یقتصر وجوده على النخب بل یتمتع بقاعدة جماهیریة واسعة، ویعتقد أفراده أن احتلال إسرائیل لأرض فلسطین هو شرط عودة المسیح المنتظَر (هینبوش، 2006 ب: 298). وقد تأثر فریق المحافظین المحیط ببوش بمنطق حزب اللیکود الإسرائیلی، وعکس فی ذلک حالة «أسرلة (israelization) للسیاسة الخارجیة لأمیرکا» (هینبوش، 2006 أ: 453). المهزلة أن نتنیاهو المتطرّف رفض شاکراً المشروع الذی أعدّه بعض أطراف هذا الفریق لإعادة صوغ الشرق الأوسط وفق إرادة الولایات المتحدة کدولة مسیطرة، وإسرائیل کدولة مسیطرة إقلیمیة، لأنه بدا مشروع مواجهة شاملة مع کل الشرق الأوسط وشعوبه (هینبوش، 2006 ب: 312). عکست السیاسة الخارجیة الأمیرکیة بالتالی، لیس المصالح الوطنیة الأمیرکیة بالضبط، وإنما مصالح قوى الضغط وجماعات المصالح التی استطاعت تجییر قوة أمیرکا لتحقیق مصالحها الخاصة.
أوضح کراسنر واقع الولایات المتحدة، حیث المجال العام مطواعاًَ، یسمح باحتلاله من قبل قوى الضغط وجماعات المصالح وتجییر سلطة الدولة لها. وبدا العدوان على العراق حرباً لا تملیها ظروف أمنیة قاهرة (security dilemma)، کما هو تبریر الحرب فی النظریة الواقعیة، وإنما «حرب نظام بعینه» (war of regime)، أملتها المصالح الخاصة التی احتلت موقع القرار وجیّرته لمصلحتها (هینبوش، 2006 أ: 458). سمى الباحثون العدوان على العراق «حرباً من أجل السیطرة على الموارد» (resource war). وهو ما عبّر عنه وولفوفیتز من أن الخیار وقع على العراق بدلاً من کوریا الشمالیة، لأن العراق منطقة استراتیجیة «تسبح فی النفط» (المصدر نفسه: 457). قدّم هینبوش جهداً استثنائیاً فی رصد المراجع التی تناولت قرار إعلان الحرب على العراق عام 2003. کان ثمة خوف من ارتفاع أسعار النفط بسبب بلوغ السعودیة، المنتج الرئیسی له، الحد الأقصى الذی یمکن تصدیره، وبحیث بدا العراق بحکم احتیاطیه الکبیر، البدیل القادر على تأمین وفرة فی العرض تؤمّن استقرار الأسعار (هینبوش، 2006ب: 292). لو توقفنا عند هذه النقطة فی السرد، لبدت أمیرکا فعلاً حاجة کدولة مسیطرة ذات دوافع حمیدة تتناول استقرار سوق النفط، ولبدت فی ذلک وکأنها تحقّق مصلحة العالم، أو «خدمة عامة». لکن الأمر یتطلب معالجة إضافیة. بیّنت الوقائع أن سیطرة صدام حسین على نفط الکویت لو تمّت عام 1990، لما کان حصل تغییر فی الأسعار، بحکم اضطرار العراق لالتزام الأسعار العالمیة، وأن فائدة هذا الاخیر من نفط الکویت کانت ستکون بالعائدات الإضافیة التی ستوفرها له. الأمر نفسه کان سیحصل عام 2003، أی زیادة العرض من دون ارتفاع الأسعار لو رُفِع الحظر عن تصدیر نفط العراق بدلاً من احتلاله. بل إن إظهار الدولة المسیطرة وکأنها معنیة بتحقیق وفرة تؤمّن استقرار الأسعار، یتناقض مع رهانات أوساط المحافظین الجدد على ارتفاع لأسعار البترول فی مناسبة الحرب. وهو ارتفاع من شأنه رفع أرباح منتجی البترول فی تکساس، وأرباح منتجی الأسلحة الذین یعوّلون على مشتریات دول الخلیج منها لرفع أرباحهم. ولقد کانت أرباح الشرکات فی هذین القطاعین فی تراجع قبل الحرب (المصدر نفسه: 295). والبعض من صقور المحافظین الجدد، من مثل ریتشارد بیرل، رأوا فی احتلال العراق سانحة للتخلص من عبء العلاقة مع السعودیة (المصدر نفسه: 312).

لم یشأ الأمیرکیون إزالة العقوبات عن العراق ورفع الحظر عن تصدیر النفط فیه. أرادوا وضع الید على إنتاجه بواسطة الاحتلال المباشر. کانوا یریدون توفیر فائض فی العرض، من دون الأخذ برأی مالکی النفط ومنتجیه، وبشروطهم هم (washington’s terms) (المصدر نفسه: 289). مثّلت سیطرة أمیرکا على نفط العرب على مدى نصف قرن على الأقل حتى ذلک التاریخ، أحد أسباب تفوقها على البلدان الصناعیة الاخرى، واحتکارها لدور الدولة المسیطرة. أظهرت الوقائع التی کانت تُکشَف تباعاً خلال حقبة ما بعد 2003، أن الإدارة الأمیرکیة التی اتخذت قرار الحرب، کانت تعرف أن العراق لیست لدیه أسلحة دمار شامل، وأنه لا یشکّل تهدیداً لأمنها. کما أظهرت أن الاتهامات التی سیقت بحقه کانت کاذبة ومتجنّیة، وأن مروّجیها کانوا یعرفون ذلک (المصدر نفسه: 310). وجد الباحثون وقادة الرأی أن قدرة «عصابة» تنتمی إلى أقصى الیمین السیاسی، على تحیید الإدارة الحکومیة والکونغرس وإلغاء أشکال الرقابة المؤسسیة المعتمدة للذهاب إلى الحرب، أعطت دلیلاً على الأوضاع البائسة التی باتت علیها الدیمقراطیة الأمیرکیة (المصدر نفسه: 299).
کانت الحرب أمراً سهلاً ومتیسراً بالنسبة إلى أمیرکا، بفعل التفاوت الفادح بین التقنیات الجدیدة التی عوّل علیها الجیش الأمیرکی، وبین وسائل الجیش العراقی التی بدت من عصر سابق (obsolete). استخدم الجیش الأمیرکی الوسائل التکنولوجیة کتحدید الأهداف عبر الأقمار الصناعیة واستخدام أشعة اللیزر، وتمکن من خلال ضرب الأهداف من الجو، من إلحاق الهزیمة بالعدو قبل النزول حتى إلى الأرض. قُتِل 39 ألف عراقی فی المواجهات العسکریة، وارتفع عدد الضحایا إلى مئة ألف خلال السنة الأولى من الاحتلال (هینبوش، 2006ب: 317). استعاد هینبوش الآراء القائلة بأن «الثورة المحقّقة فی المیدان العسکری»، أی التقنیات الجدیدة المستخدمة، أعادت للحرب اعتباراً کوسیلة لفرض سیطرة الولایات المتحدة على العالم الثالث، کانت قد فقدته بعد حرب فیتنام (هینبوش، 2006 أ: 458).
لم تکن حربا الولایات المتحدة ضد العراق فی 1990 و2003 سوى محطتین فی تاریخ طویل من العدوانیة التی مارسها الغرب الاستعماری ضد العالم العربی. بل لم تتعرّض أمة فی العالم کما یکرّر هینبوش، لما تعرّضت له الأمة العربیة من عدوان خارجی علیها بدءاً من التاسع عشر.

المصدر: جریدة الأخبار

رایکم
الأکثر قراءة