بسم الله الرحمن الرحیم (1)
أولاً نرحب بالحضور، و ثانیاً نبارک هذا العید السعید. و قد غدا یومنا عیداً بحضورکم و أنفاسکم الدافئة و البرامج الجیدة التی قدمتوها. نتمنى أن تکون قلوبکم دوماً مسرورة و ذاکرة لله و سائرة دوماً إلى المراتب الأعلى إن شاء الله.
نذکر نقطة حول الإمام الهمام و عالِم آل محمد سیدنا علی بن موسى الرضا (علیه آلاف التحیة و الثناء). المقامات المعنویة و الروحانیة لهذه الوجودات المقدسة أعلى حقاً من مستویات إدراکنا العقلانی، ناهیک عن أن نستطیع وصفها بألسنتنا، لکن حیوات هؤلاء العظماء ماثلة أمام أعیننا و أمام أنظار التاریخ کدروس عملیة خالدة لا تقبل الإنکار. إذا کنا نتطرق فی بعض الأحیان لحیوات الأئمة (علیهم السلام) و نعتمد على سیاساتهم و تدابیرهم و سیرهم، فهذا لا یعنى أن هذا الجانب هو أهم و أعظم جوانب حیوات هؤلاء العظماء، لا، إنما عالم المعنى و القرب إلى الله و تلک المعرفة و المحبة المتموّجة فی تلک القلوب الفذة لها وضعها الخاص. لکن ما هو أمام أنظارنا عبارة عن حیوات هؤلاء العظام التی یجب أن نستلهم الدروس منها.
کان العمر المبارک للإمام الرضا (سلام الله علیه) خمسة و خمسین عاماً تقریباً - أی من سنة 148 و هی سنة استشهاد الإمام الصادق (علیه السلام) إلى سنة 203 - أی إن کل حیاة هذا الإنسان الکبیر بکل ما لها من عظمة و عمق و أبعاد متنوعة یمکن ذکرها و تصویرها کانت فی هذه المدة القصیرة نسبیاً من عمره الشریف. و من مدة الخمسة و خمسین عاماً هذه کان هناک عشرون عاماً - تسعة عشر عاماً تقریباً - فترة إمامته علیه السلام. و لکن لو لاحظنا نفس هذه المدة القصیرة لوجدنا أن التأثیرات التی ترکتها على واقع العالم الإسلامی و على نشر و تعمیق المعنى الحقیقی للإسلام و الانشداد إلى أهل البیت (علیهم السلام) و التعرف على مدرسة هؤلاء الأجلاء، تمثل قصة عجیبة و بحراً عمیقاً. حین تولى الإمام الرضا (ع) الإمامة کان أصدقاؤه و المقرّبون إلیه و محبّوه یقولون: ما الذی یستطیع علی بن موسى الرضا أن یفعله فی هذه الأجواء. و الأجواء المقصودة هی شدة القمع و الإرهاب الهارونی الذی جاء فی الروایات عنه: «و سیف هارون یقطر دماً». ماذا بوسع هذا الشاب أن یفعله فی تلک الظروف، و مواصلة لجهاد أئمة الشیعة، و لحمل المسؤولیة العظیمة التی على عاتقه؟ هذا فی بدایة إمامة علی بن موسى الرضا (علیه السلام). بعد هذه الأعوام التسعة عشر أو العشرین و التی انتهت باستشهاده و انتهاء فترة إمامته، حین تنظرون ترون أن أفکار ولایة أهل البیت (ع) و الارتباط بآل الرسول قد انتشرت فی العالم الإسلامی إلى درجة عجزت أجهزة بنی العباس الظالمة المستبدة عن مواجهتها.. هذا ما قام به علی بن موسى الرضا (ع).
ربما سمعتم أن دعبل جاء إلى مرو، إلى خراسان، و أنشأ و أنشد تلک الأشعار المعروفة فی مدح الإمام الرضا، و نال جائزة علیها، و لنفترض أنه بقی أیاماً فی مرو و سائر مدن خراسان، ثم توجّه نحو بغداد و الکوفة و الأماکن التی کان یرید الذهاب لها. و فی الطریق هجم قطاع الطرق على القافلة التی فیها دعبل و نهبوها. و کان أهل القافلة جلوساً یتفرجون على أموالهم و هی تنهب. و کان رئیس قطاع الطرق جالساً على مرتفع أو صخرة یتفرج متبختراً على منظر هؤلاء السجناء و الأسرى من القافلة و أموالهم التی تسرق و تنهب و تجمع على ید رجاله. و سمع دعبل أن رئیس قطاع الطرق یترنّم ببعض الکلام و الأبیات، فأصغى إلیه فوجده یترنّم بأبیاته هو، و یقرأ بیتاً من القصیدة التی أنشدها قبل نحو شهر أو شهر و نصف على سبیل الافتراض: «أرى فیئهم فی غیرهم...» (2) إلى آخر البیت. رئیس قطاع طرق بالقرب من الری أو العراق یحفظ هذه الأبیات. فرح دعبل و نهض و قال: لمن هذا البیت الذی تقرأه؟ فقال: إنه لدعبل الخزاعی. فقال دعبل: و أنا هو دعبل الخزاعی! حین رأى رئیس قطاع الطرق أن هذا الذی أمامه هو دعبل الخزاعی نهض و احتضنه و قبّله، و قال: ببرکة وجود هذا الشخص فی هذه القافلة نعید لکم کل الأموال، فأعادوا لأهل القافلة کل الأموال و الممتلکات و أبدوا الاحترام لهم و سیّروهم و ترکوهم.
هذه حادثة صغیرة فی التاریخ، لکن لها معنى کبیراً. قصیدة تنشد فی مدح علی بن موسى الرضا (ع) فی مرو، و بعد نحو شهر أو شهر و نصف أو أکثر أو أقل، نجدها تقرأ محفوظة فی الری أو العراق من قبل قاطع طریق. ما معنى هذا؟ معناه أن الأرضیة کانت مهیّئة لنشر مدرسة و أفکار أهل البیت (ع) و الاسم المبارک للإمام الرضا إلى درجة أن هذه القصیدة - و قد کان الشعر یومذاک من أکثر وسائل الإعلام تأثیراً و نفاذاً - تناقلتها الأیدی خلال مدة قصیرة لتصل إلى قاطع طریق یجول فی الصحراء. هذا مؤشر على حرکة عظیمة تفاعلت فی زمن إمامة الإمام علی بن موسى الرضا (سلام الله علیه) لترویج و إشاعة مدرسة أهل البیت (ع)، فانتشرت مودّتهم و عمّت، و تغلغل وجودهم فی المجتمع الإسلامی إلى أعماق قلوب الناس. حین ترون أن الکثیر من أبناء الأئمة توجّهوا إلى هذه البلاد، فما عدا الجانب المأساوی للقضیة و استشهادهم فی الطریق، هناک جانب إیجابی زاخر بالمعانی للقضیة یتمثل بدعوة الناس و طلباتهم و الأرضیة الشعبیة لتقبل الناس أهل البیت (ع) و انشدادهم إلیهم. و تعلمون أننا حین نقول «أهل البیت» نعنی هذه المدرسة و هذه المعانی و هذا اللباب الذی یطرحه أهل البیت عن الإسلام، أی إنه مشروع ثقافی و معنوی عمیق و عمل عقیدی کبیر.
هذا هو تحرک الإمام الرضا (علیه السلام) إلى أن شعر المأمون أخیراً، فی إطار الأمور و القضایا التی سمعتم بها و تکرّرت و تعلمونها، شعر أنه مضطر لقتل علی بن موسى الرضا (علیه السلام) الذی جاء به من المدینة و قرّبه إلیه لنوایاه و مقاصده الخاصة، و لم یکن یقصد قتله، لکنه غیّر تدبیره، و جرى القضاء و الإرادة و التدبیر الإلهی على أن یدفن بضعة الرسول (ص) فی هذه المنطقة البعیدة عن المدینة - و هذا بحد ذاته تدبیر و هندسة إلهیة - و أن یقتل على أیدی أعداء أهل البیت (ع).
هکذا ینبغی القیام بالأعمال التی تهدف إلى الغایات السامیة. یجب النظر للمدیات البعیدة بهذه المحفزات و النوایا و الآمال. و الحرس الثوری یقف فی مثل هذا الموقف و الوضع. لیس الکلام أن حکومة جدیدة تولت زمام الأمور بعد الثورة، و لها أنصارها و لها معارضوها، و البعض طبعاً جنودها و حراسها و حماتها، لیست هذه هی القضیة، إنما القضیة فوق هذا. قضیة الثورة الإسلامیة - و أنتم حراس الثورة الإسلامیة - فوق هذه الأمور. و سوف أذکر أولاً نقطة حول تجربة الحرس الثوری خلال هذه الأعوام الطویلة، و أعرّج بعدها على الفکرة التی أقصد ذکرها لکم أیها الإخوة الأعزاء.
ملف حرس الثورة فی هذه الأعوام التی تربو على الثلاثین، ملف مشرق. و لا أقول هذا الکلام من باب أنه کلام دارج و مألوف و شائع یجری على ألسنة الکثیرین، بل هذا هو واقع الأمر. ملف حرس الثورة فی هذه المدة من الزمن یشیر فی الواقع إلى تجربة شعب، أی یمکن مشاهدة أعماق شخصیة الشعب الإیرانی و هویته فی هذا الملف، و ذلک لأن الحرس الثوری نزل إلى الساحة بإیمان و عقیدة. أیة ساحة؟ ساحة الجدّ و الجهاد و المقاومة. و قد خرّج الحرس الثوری أذکى القادة العسکریین و أقواهم. هؤلاء الحرس الذین صاروا و هم فی سنی الشباب و دون الثلاثین من أعمارهم مخططین و بتعبیر الأجانب استراتیجیین بارزین فی ساحات الحرب، لم یتخرجوا من أیة کلیة عسکریة، إنما تخرجوا من الحرس الثوری و من هذه الأجواء النورانیة. إنهم خرّیجو هذه المؤسسة المبنیة على الإیمان و العقیدة. الحرس ربّى هذه الشخصیات المبرزة التی لن ینسى شعبنا و تاریخنا أسماءهم أبداً. هذه هی میزة الحرس. هذا على صعید الحرب. بالإضافة إلى ذلک فإن أفضل مدراء البلاد و أقواهم و أوسعهم تدبیراً تخرّجوا أیضاً على ید الحرس و فی مجالات غیر عسکریة. ما خرّجه الحرس من کوادر إنسانیة لمختلف أجهزة النظام الإسلامی و مؤسسات یشکّل قائمة طویلة زاخرة بالمفاخر و الأمجاد. هذا هو ملف الحرس.
من الجوانب المهمة فی ملف الحرس الثوری أنه عاش ثوریاً و بقی ثوریاً. بمعنى أن الأحداث و التیارات لم تستطع حرف هذه التنظیمات القویة و المتینة البنیة عن مسارها الأصلی الصحیح بذریعة تغیّر العالم و تغیّر الحیاة. و هی ذرائع تسمعونها و ترونها و ترون من یتذرّعون بها لتبریر انهزامیتهم و ندمهم. ذریعتهم أن العالم قد تغیّر، و أن کل شیء قد تغیّر. هناک أشیاء لا تتغیّر. منذ فجر التاریخ و إلى الیوم لم یتغیر حسن العدالة و طلب العدالة، و قبح الظلم، و حسن الاستقلال الوطنی و العزة الوطنیة. هذه و الکثیر من المبادئ الأخرى لا تقبل التغییر. أن یکون العالم قد تغیّر فهذا لا یمثل ذریعة لأن نغیّر سولکنا و أهدافنا و مبادئنا. حین یتغیّر المبدأ یتغیّر الطریق، و حین یتغیر الهدف النهائی لا یعود معنى لاستمرارکم فی السیر على الدرب السابق، إنما تتحرکون صوب هدف جدید فی طریق جدید آخر. من أهم نقاط قوة الحرس الثوری صموده و استقراره و ثبات أقدامه على هذا الطریق النیّر. هذا حول الحرس الثوری، و یمکن التحدث عن الحرس الثوری کثیراً، و قد تحدثنا کثیراً، و تحدثوا کثیراً، و هناک مجال کبیر للکثیر من الکلام أیضاً، لکننا لا نذکر أکثر من هذا فی الوقت الحاضر.
المهم هو - و هذا هو ما أرید أن أقوله - أن الحرس الثوری هو حامی الثورة الإسلامیة و حارسها. و لا نرید القول إن هذه الحراسة و الحمایة بمعنى أن الحرس الثوری یجب أن یدخل و یمارس حراسته فی کل المجالات و الصعد العلمیة و الفکریة و الثقافیة و الاقتصادیة.. لا، لیس هذا قصدی، لکن القصد هو أن الحرس الثوری بوصفه کائناً حیّاً یجب أن یعلم ما الشیء الذی یرید حراسته، و ما هی هذه الثورة. لیس من الضروری أن یدخل الحرس الثوری فی الساحة السیاسیة و یمارس حراسته هناک، لکنه یجب أن یعرف الساحة السیاسیة. هذا الخلط فی المباحث الذی یقع فیه البعض یجب أن یتضح تماماً و بدقة. لا یمکن تعریف منظومة على أنها الذراع الحارس للثورة فی البلاد، لکنها تبقى على صعید التیارات السیاسیة المتنوعة - و بعضها منحرف و بعضها غیر منحرف و بعضها تابع لذا و ذاک - مغمضة العینین و غیر واعیة و غیر بصیرة. هذه حالة لا معنى لها. یجب أن یعلم الحرس عن ماذا یدافع و ما الذی یحرسه. أن نأتی و نختزل تحدیات الثورة إلى تحدیات سیاسیة و فئویة و مواجهات زید و عمرو، فهذا تبسیط و تسامح و تساهل. لیست هذه هی تحدیات الثورة. أن تکون لخط سیاسی أو تیار سیاسی معارکه مع تیار سیاسی آخر، أو أن یختلف زید مع عمرو، فهذه لیست تحدیات الثورة، إنما تحدی الثورة الأساسی هو أن الثورة عرضت على البشریة نظاماً جدیداً.
لا نقول إن الثورة جاءت منذ الیوم الأول لتخاطب کل البشریة، لا، کانت الثورة الإسلامیة فی «إیران»، و کان لها ترکیزها على قضایا إیران، و على اجتراح تغییرات أساسیة فی إیران، لکن لغة هذه الثورة و رسالتها کانت بحیث لا یمکنها بطبیعة الحال أن تبقى محصورة فی حدود إیران. ثمة مفهوم عالمی و حقیقة عالمیة و حقیقة بشریة حملت رسالتها هذه الثورة، و کل من یسمع هذه الرسالة فی العالم یشعر بالانشداد إلیها. فما هی هذه الرسالة؟ لو أردنا أن نعبّر عن هذه الرسالة فی شکلها الاجتماعی و الإنسانی بکلمة واحدة لقلنا إنها مواجهة نظام الهیمنة. هذه هی رسالة الثورة. نظام الهیمنة نظام تقسیم العالم إلى ظالم و مظلوم. و منطق الثورة و هو منطق الإسلام یقول «لا تظلِمون و لا تُظلَمون» (3).. یجب أن لا تظلموا أحداً و لا تسمحوا لأحد بظلمکم. و من فی کل هذه البشریة و الإنسانیة على اتساعها لا تروقه هذه الرسالة و لا ینشدّ إلیها؟ لا تظلِم و لا تُظلَم. هذا على الضد تماماً من النظام السائد فی العالم ما بعد ظهور الحضارة الصناعیة الجدیدة و شیاع الأدوات الصناعیة، و تبعاً لها انتشار ثقافة الهیمنة فی العالم. کل مؤسسة و جهاز فی العالم تابع لنظام الهیمنة یعارض هذه الرسالة. الذین هم أنفسهم من أرباب الهیمنة - و أعنی بهم الدول المتجبّرة و الشبکات الاقتصادیة المصّاصة للثروات الوطنیة و خیرات الشعوب - یعارضون هذه الرسالة، لأنهم یمارسون الظلم. الحکومات التابعة التی تحکم الشعوب الفقیرة أو الثریة و تتبع نظام الهیمنة، لا قدرة و لا هیمنة لها من نفسها، لکنها تتبع المهیمنین و تسیر على خطاهم، فتعارض بدورها هذه الرسالة.
الحکومة الفلانیة التی تطبق سیاسات نظام الهیمنة، السیاسات الأمریکیة على سبیل المثال و سیاسات بریطانیا فی عهد سابق، بحذافیرها فی بلادها، هذه الحکومة تعارض بشکل طبیعی رسالة «لا تظلِمون و لا تُظلَمون». و الشرکات الدولیة و المتعددة الجنسیات و الأحادیة الجنسیات و مکتنزو الثروات العامة یعارضون هذه الرسالة. و السیاسات التی تعمل على نشر الحروب و الفقر و الفساد فی العالم تعارض هذه الرسالة. الحروب فی العالم خلال الحقبة الأخیرة أو القرنین أو الثلاثة الأخیرة وقعت غالباً بتأثیر من نظام الهیمنة. إما أن المهیمنین هم أنفسهم أشعلوا الحرب ضد طرف معین، أو أنهم أشعلوا الحرب بین طرفین من أجل أن ینتفعوا. و الفقر أیضاً من فعلهم.. الکثیر من هذه البلدان الفقیرة التی تعیش شعوبها حالات الفقر و لا تستطیع أن تنتفع من مصادرها الطبیعیة، یتحمّل المهیمنون خطیئة فقرهم. لقد أفرغوا الکثیر من البلدان و بفعل هیمنتهم السیاسیة علیها من مخزونها العلمی. اقرأوا کتاب جواهر لعل نهرو - نظرة لتاریخ العالم - فی الجزء الذی یعرض فیه تدخل الإنجلیز و نفوذهم فی الهند و یصوّره و یشرحه - و هو إنسان أمین و مطلّع - یقول إن الصناعة التی کانت فی الهند و العلم الذی کان فی الهند لم یکن بأقل من أوربا و بریطانیا و الغرب، بل کان أکثر. و حین دخل الإنجلیز الهند کان من مخططاتهم الحیلولة دون تنامی الصناعة المحلیة الهندیة. و انتهى الأمر بالهند بعد ذلک إلى أن یکون فیها عشرات الملایین آنذاک، و مئات الملایین فی فترات لاحقة من الفقراء و الشحاذین و المتسولین و الجیاع بالمعنى الحقیقی للکلمة. و کذا الحال فی أفریقیا، و کذا الحال بالنسبة للکثیر من بلدان أمریکا اللاتینیة.
إذن، نظام الهیمنة فضلاً عن أنه مثیر للحروب، فهو صانع للفقر و الفقراء. هذه الثروات العظیمة التی ترونها فی القمّة - هؤلاء الأثریاء الأوائل و من الدرجة الأولى الذین ترونهم فی العالم - هی ما قیل عنه «ما رأیتُ نعمة موفورة إلّا و فی جانبها حق مضیّع». حین ینهبون نفط بلد، و حین یسرقون المحاصیل الزراعیة لبلد، و عندما یسطون على الشای فی بلد، و یخرجون تجارة بلد من أیدی أبناء ذلک البلد و یحرمونهم منها، و حین یسلبون إنتاج الشعب و صناعته و سائر شؤون تقدمه الوطنی، سیغدو الشعب بطبیعة الحال فقیراً. إذن، الحروب من فعلهم، و الفقر من فعلهم، و الفساد أیضاً من فعلهم. نشر الفساد فی العالم و تأجیج نیران المیول الجنسیة - و هی میول طبیعیة و تقبل التأجیج لدى کل البشر - هو أیضاً من فعلهم. و لکل واحد من هذه الأمور قصّته المستقلة الطویلة.
حسناً.. نظام الهیمنة ینشر الحروب و الفقر و الفساد بآلیته المعروفة فی تقسیم العالم إلى ظالم و مظلوم. و الإسلام - أی الثورة الإسلامیة المستمدة من المفاهیم الإسلامیة - یقول: لا تظلِمون و لا تُظلـَمون. بمعنى أنه یرفض کل هذه العوامل. هنا التحدی الأصلی. هنا المعرکة الأصلیة. و هنا مکمن الصراع ضد الثورة. أما سائر الکلام فذرائع. الحظر و الحرب الداخلیة و التدبیر لإنقلابات و سائر الأمور التی کانت خلال هذه الأعوام، و ملف الطاقة النوویة، یجب النظر لها جمیعاً فی هذا الإطار. یجب النظر إلى أن ثورة انتصرت خلافاً لتصور کل العالم، و شکلت حکومة، و هذه الحکومة بقیت و استمرت و ستبقى - خلافاً لتصوّر کل العالم الذی خال أن الجمهوریة الإسلامیة ستزول فی غضون ستة أشهر أو سنة أو سنتین، ثم تساهلوا قلیلاً فجعلوها ثلاثة أو أربعة أعوام - و ازدادت قوةً یوماً بعد یوم، و صارت باستمرار «أصلها ثابت و فرعها فی السماء تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها» (4)، و تحولت إلى قوة إقلیمیة و صارت بلداً مؤثراً فی قضایا العالم الکبرى، و هم یعارضون هذا الشیء و یعادونه.
یثیرون قضیة التسلح النووی. إننا نرفض السلاح النووی لا من أجل طیب خاطر زید و عمرو، و لا من أجل أمریکا أو غیر أمریکا، بل لأن هذه هی عقیدتنا. یجب أن لا یمتلک أی طرف سلاحاً نوویاً. حین نقول یجب أن لا تمتلک أنت فمعنى ذلک أننا نقول و بکل حسم إننا أیضاً یجب أن لا نمتلک، و لن نمتلک. لکن قضیتهم قضیة أخرى. إنهم لا یعارضون أن تظهر بلدان تکسر احتکارهم.. طبعاً هم من ناحیة لا یریدون لاحتکارهم أن یُکسر، لکنهم لا یقیمون القیامة لذلک، أما بخصوص إیران الإسلامیة و الجمهوریة الإسلامیة فیقیمون القیامة، لماذا؟ لأن امتلاک مثل هذه القدرات و مثل هذه الطاقات سیکون رصیداً لنظام «لا تظلِمون و لا تُظلمون».. هنا التحدی الأصلی. یجب معرفة هذا الشیء و مشاهدته و رؤیته، و فی هذا الإطار یجب تحلیل و تفسیر توجهات أمریکا و الغرب و فلان من البلدان التابعة لهم و التیار الفلانی المرتبط بهم.. هذه هی الثورة الإسلامیة.
لم یکن شخصٌ مبغوضاً فی أعین هؤلاء الأعداء أکثر من الوجه المشرق و الشمس الساطعة لإمامنا الخمینی الجلیل. کانوا یحترمونه، لکنهم کانوا یعادونه فی قرارة قلوبهم، لأنه کان صامداً أمامهم، و لأنه بخصوصیتین نادرتین فیه هما «البصیرة التامة» و «الحسم القاطع» - فقد کان یرى جیداً و یفهم جیداً و یصمد بکل قاطعیة - کان سداً مقابل تقدمهم و نهبهم و ضرباتهم التی یوجّهونها، لذلک کانوا یعادونه. و بالطبع قلنا إنهم کانوا یحترمونه و یدرکون عظمته، لکنهم کلما ازداد عظمة ازدادوا بغضاً له. و کذا الحال الیوم أیضاً. کل من کان أکثر التزاماً بهذه القیمة الأصولیة الأساسیة، و هی القیمة التی ترسم الهویة السیاسیة للثورة - لا تظلِمون و لا تُظلمون - و یدرک أن لائحة المشکلات التی یختلقها الأعداء ضد النظام الإسلامی تندرج ضمن هذا الإطار - کل من یصمد فی هذا الطریق بمثل هذه الرؤیة - سیکون مبغوضاً من قبلهم بنفس الدرجة. طبعاً عالم الدبلوماسیة عالم الابتسامات، فهم یبتسمون و یتفاوضون و یطلبون المفاوضات، و یصرّحون بذلک. قیل لأحد الساسة الغربیین قبل أیام: إن إیران عدو لکم فلماذا ترید التفاوض معها؟ فقال: الإنسان إنما یتفاوض مع عدّوه! إی إنهم یعترفون بمعاداتهم لإیران، و یصرحون بذلک. و لیس الأشخاص هم سبب العداء، إنما السبب هو هذه الحقیقة و هذه الهویة. کل ما یقولونه یجب أن یفسر و یحلل و یفهم ضمن هذا الإطار.
إننا لا نعارض التحرکات الدبلوماسیة الصحیحة و المنطقیة، سواء فی عالم الدبلوماسیة أو فی عالم السیاسات الداخلیة. إننی أؤمن بالشیء الذی أطلق علیه قبل سنوات اسم «المرونة البطولیة». فالمرونة لازمة جداً فی بعض المواطن، و جیدة جداً، و لا إشکال فیها، لکن المصارع الذی یتصارع مع خصمه، و یبدی فی بعض المواطن مرونة لأسباب فنیة احترافیة، یجب أن لا ینسى من هو طرفه المقابل، و لا ینسى ما الذی یفعله. هذا هو الشرط الأصلی. یجب أن یفهموا ما الذی یفعلونه و من الذی یواجهونه و من هو طرفهم الآخر، و ما هی الأمور التی یستهدفها الطرف الآخر. یجب أن یتنبهوا لهذه الأمور.
أنتم حرّاس الثورة الإسلامیة. لیس معنى حراسة الثورة الإسلامیة أن یتواجد حارس الثورة فی کل المیادین و الساحات و یتولى فیها واجباً، لا، إنها واجب مشخص و معین و له ضوابطه و قد جاءت هذه الضوابط الیوم فی کلمة هذا الآمر المحترم و العزیز علینا.. هذه النظرة لمدیات نشاط حرس الثورة الإسلامیة صحیحة و أنا أؤیدها، لکن الحرس الثوری یجب أن یعلم دوماً ما الذی یرید فعله، و ما الذی یرید حراسته و حمایته. هذا أولاً و ثانیاً یجب أن لا ینسى ثبات الأقدام الذی یعدّ العنصر الأصلی فی هویة الحرس الزاخر بالمفاخر و الأمجاد. هذا شیء ینبغی للکل و على کل المستویات أن یتنبّهوا له.
ذکرنا مراراً أن عمل الحرس الثوری یعتمد على المعنویة، و المعنویة لا تتعارض مع حالات التقدم العلمی و الابتکارات العلمیة و العملیة المتنوعة و الأسالیب و التدابیر و التنظیمات الواعیة. یجب أن لا نتصور أنه عندما یعتمد المرء على المعنویة فیجب أن لا یهتم للظواهر، لا، أفضل و أدق الأسالیب القتالیة فی صدر الإسلام أبداها الرسول الأکرم (ص) و الإمام علی بن أبی طالب (ع) و المسلمون فی حروبهم. و فی عصرنا و خلال فترة الدفاع المقدس، استخدمت القوات الثوریة - سواء الحرس الثوری أو الجیش أو المجامیع العسکریة الثوریة - أدق التکتیکات و الأسالیب فی العمل. المعنویة لا تنافی التمرس فی الأصول المادیة للعمل و تنظیم الأمور بشکلها الصحیح. یجب الحفاظ على هذه المعنویة، فهی أساس الأمور.
و النقطة الأخیرة التی أودّ ذکرها هی أننی أعتقد أن المستقبل مستقبل مشرق للثورة الإسلامیة، و هذا لا یعنی مخادعة للذات، بل هو بمعنى ملاحظة کل ما یبدو أمام أنظارنا من واقع. و ثمة هنا دلیلان على هذا التفاؤل: الدلیل الأول دلیل التجربة. فمن أی وضع فی بدایة الثورة، و من أی فقر فی الطاقات البشریة و فی القوی المادیة و فی السلاح و فی التجارب الإداریة و فی الکثیر من المجالات انتقلنا إلى أیّ وضع فی الوقت الراهن، حیث الغنى فی الطاقات البشریة و الغنى المادی و الغنى العلمی و السیاسی و الغنى فی السمعة و المکانة الدولیة؟ طوال هذه الأعوام الأربعة و الثلاثین من أین وصلنا إلى أین؟! و کل ما قمنا به طوال هذه الأعوام الخمسة و الثلاثین کان یواجه ضغوطاً و عقبات من الطرف المقابل، أی یواجه ریاحاً مضادة، لکننا استطعنا أن نتقدم إلى الأمام. کان هناک تیار معارض شدید فی الأرضیة و الساحة التی کنا نتحرک علیها، و مع ذلک استطعنا أن نتقدم إلى الأمام. أفلیست هذه تجربة جیدة؟ ألا تکفی هذه التجربة؟ التیارات المعارضة و حالات العداء لا تستطیع تدویخ و تضلیل و إیقاف مسیرة الشعب المتحد المصمم المؤمن و الذی یعلم و یفهم ما الذی یرید أن یفعله. فی هذه الأحداث التی وقعت مؤخراً فی العالم الإسلامی و فی منطقتنا، أین ما وجدتم وقوع خسائر فالسبب هو أنهم لم یکونوا یعلمون ماذا یجب أن یفعلوا، و لم یکن هناک خط صحیح للدلالة على الأعمال و الأفعال، لذلک حصل ما حصل. و بالطبع لن یبقى الأمر على هذا النحو. هنا أیضاً سیفعل هذا الحدث الذی وقع فی المنطقة و البلدان الإسلامیة - أعنی الصحوة الإسلامیة - و کان أمراً غیر مسبوق، سیفعل فعله. کان هذا دلیلاً یتمثل بالتجربة السابقة.
و الدلیل الآخر هو أننا نسیر و نتحرک على أساس المنطق و وفقاً لحسابات علمیة، و الطرف المقابل لنا یعانی من نقاط ضعف متزایدة و تناقضات داخلیة بسبب الخطأ الفاحش فی البنیة الداخلیة لتلک الحضارة. إنهم یتراجعون - و لیس من الضروری طبعاً أن یکونوا قد اعترفوا بهذا التراجع أو أن یبدو هذا التراجع بشکل محسوس و واضح على کلامهم - و هذا هو واقع الأمر و حقیقة القضیة. و حین یتقدم شعب بالأمور على أساس حسابات صحیحة و بالعثور على الأسالیب الصائبة، فسوف یصل بالتأکید للنتائج المطلوبة. قلنا إن «البنیة الداخلیة للنظام» یجب أن تتمتّن و تتقوّى، و قلنا یجب إنماء العلم، و قلنا إن الإنتاج الداخلی یجب أن یکون أساس الأمور و الأعمال، و قلنا إن النظرة المتفائلة للمواهب المحلیة للبلاد یجب أن تکون جدیة، و ینبغی إنماء المواهب و تنضیجها.. هذه هی الأسس الأصلیة للعمل. حین یسیر بلد ما بالاعتماد على مواهبه الداخلیة، و بالتوکّؤ على إبداعات طاقاته البشریة، و بالاستناد على علومه و معارفه، و بالاعتماد على إیمانه و اتحاده، سوف یصل للنتائج المطلوبة. و علیه، فنحن لا نشک بأن مستقبلنا مشرق، أما أن یکون هذا المستقبل قریباً أو بعیداً فهذه المسألة بأیدینا أنا و أنتم: إذا عملنا بصورة جیدة سیهلّ هذا المستقبل أسرع، و إذا أبدینا الکسل و التقصیر و الأنانیة و عبادة الدنیا و الانشداد إلى هذه الظواهر و الاغتباط بها و الرکون إلیها فسوف تسقطنا و ننهار فی داخل أنفسنا - سواء التساقط الشخصی فی داخل الإنسان، أو التساقط الاجتماعی - فمن الطبیعی أن نصل لذلک المستقبل متأخرین، لکنه مستقبل سیحلّ بلا شک، و ما هذا إلّا بفضل الجدّ و الکد و العناء و التضحیات، و قد کنتم و الحمد لله ناشطین فی ساحة التضحیة و أحسنتم البلاء و عملتم بشکل متألق، و سیکون الأمر على نفس هذا المنوال فی المستقبل أیضاً إن شاء الله.
نتمنى أن یشملکم الله جمیعاً بأدعیة سیدنا الإمام المهدی المنتظر (أرواحنا فداه)، و أن یجعلکم و یجعلنا حرساً للإسلام و للثورة الإسلامیة بالمعنى الحقیقی للکلمة، و أن یحشر الروح الطاهرة للشهداء و الروح المطهرة لإمامنا الخمینی الجلیل مع أولیائه و مع الرسول الأکرم (ص).
و السلام علیکم و رحمة الله و برکاته
المصدر: http://arabic.khamenei.ir