بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین، و الصلاة و السلام على سیدنا و نبینا أبی القاسم المصطفى محمّد، و على آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین الهداة المهدیین المعصومین، سیّما بقیة الله فی الأرضین. اللهم صلّ على فاطمة و أبیها و بعلها و بنیها. اللهم صلّ على ولیک علی بن موسى عدد ما أحاط به علمک، صلاة دائمة بدوام عظمتک و کبریائک. اللهم سلّم على ولیک علی بن موسى الرضا عدد ما فی علمک، سلاماً دائماً بدوام مجدک و عظمتک و کبریائک.
أشکر الله تعالى و أحمده على أن تفضل و منّ بالعمر کی نستطیع الحضور مرة أخرى و عاماً آخر إلى جوار هذا المرقد السماوی النیّر و وسط هذه الحشود الصمیمیة المتحمّسة للتحدث معکم أیها الإخوة و الأخوات الأعزاء. أولاً أرى لزاماً علیّ أن نبارک مرة أخرى النوروز و حلول العام الجدید لکل الإخوة و الأخوات الذین یستمعون لکلمتنا و لکل شعب إیران، و نسأل الله تعالى للشعب الإیرانی و لکل المسلمین فی العالم سنة مبارکة و حیاة تغمرها السعادة، و نرجو أن یتفضل الله تعالى فتکون السنة التی بدأت الیوم سنة تلیق بشأن الشعب الإیرانی الکبیر، و عاماً زاخراً بالخیرات و البرکات و الفضل الإلهی و عنایة الربّ.
نذکر نقطة تتعلق بالعام 92 الذی انتهى یوم أمس. لقد أشرنا فی النداء بمناسبة بدایة هذا العام إلى أن شعب إیران صنع ما هو متوقع فی سنة 92 کملحمة سیاسیة. و من المتیقن منه أن الملحمة السیاسیة تجلت فی خطوتین کبریین للشعب الإیرانی أکثر من غیرهما من الخطوات: الخطوة الأولى الانتخابات فی النصف الأول من السنة، و الخطوة الثانیة تظاهرات الشعب العامة العظیمة فی النصف الثانی من السنة. لقد تحدثنا کثیراً حول الانتخابات، سواء هذه الانتخابات أو کل الانتخابات العدیدة التی أقیمت منذ بدایة الثورة و إلى الیوم. و کذلک تحدثتُ و تحدث غیری عن التظاهرات الکبرى العامة فی الثانی و العشرین من بهمن، و ذکرنا الکثیر من النقاط لا نرید تکرارها، و لکن ثمة نقطتین حول هاتین الحادثتین. بشأن کل واحد من هذین الحدثین الذین یمکن القول و بالمعنى الحقیقی للکلمة إن کل واحد منهما کان وسیلة إعلام شاملة عامة تعکس وضع بلادنا و شعبنا مقابل التضلیل و التشویه المغرض للإعلام العالمی، بشأن کل واحد منهما توجد نقطة أرغب أن أذکرها قبل الخوض فی النقاط ذات الصلة بالعام الجدید 93 .
النقطة الأولى تتعلق بالانتخابات. تنبّهوا أیها الإخوة و الأخوات إلى أن مستوى مشارکة الشعب فی الانتخابات منذ بدایة الثورة و إلى الیوم لم ینخفض و لم یهبط، و هذا شیء على جانب کبیر من الأهمیة. فی الانتخابات الأخیرة التی توجّه فیها شعب إیران إلى صنادیق الاقتراع - أعنی انتخابات رئاسة الجمهوریة الحادیة عشرة - کانت مشارکة الشعب بنسبة 72 بالمائة، و هذا الرقم عال بین الانتخابات التی تجری فی العالم و یمثل مستوى ممیزاً، و کذلک هو من أعلى الأرقام بین الانتخابات التی أقیمت فی البلاد منذ بدایة الثورة و إلى الیوم، فما معنى هذا؟ معنى هذه المشارکة الواسعة للشعب فی الانتخابات أن الدیمقراطیة الدینیة تکرّست و ترسّخت فی البلاد. معناها أن نظام الجمهوریة الإسلامیة نجح فی مأسسة الدیمقراطیة فی البلاد و جعلها ظاهرة مؤسساتیة راسخة، و هذا لیس بالشیء القلیل. البلد الذی عایش طوال قرون متمادیة حکاماً مستبدین و دکتاتوریین تعرف على الدیمقراطیة و مشارکة الشعب فی انتخاب أصحاب السلطة، و امتزج بهذه الحالة إلى درجة أنه بعد مضی 35 عاماً على هیاج بدایات الثورة و حماسها، حینما یتوجّه الناس للانتخابات یشارک فیها 72 بالمائة من الشعب. ینبغی معرفة قدر هذا الشیء. أقول لکم أیها الشباب و لکل أصحاب الرأی و الفکر فی کل أرجاء البلاد: یجب أن لا ننکر هذه النعمة الکبیرة بل ینبغی شکرها، و فی عام 88 لم یشکر البعض هذه النعمة الإلهیة. و من عدم الشکر أن یُسمع أحیاناً أن البعض ینسب عدم السلامة للانتخابات فی البلاد، و هذا تکرار لکلام أعداء الشعب الإیرانی. لقد تحولت الدیمقراطیة فی البلاد إلى سیاق عادی مألوف، لذلک یعتبر أبناء الشعب فی کل أنحاء البلاد، و فی القرى و المدن، أنفسهم أمام واجب حینما یتوجّهون لصنادیق الاقتراع، و یشارکون بنسبة 72 بالمائة. هذا شیء على جانب کبیر من الأهمیة، و هذا الرقم من الأرقام العالیة فی العالم.
و النقطة الثانیة التی ینبغی أن یتنبّه لها إخوتی و أخواتی الأعزاء هی حول تظاهرات الثانی و العشرین من بهمن. هناک من یحسبون و یقیسون الجموع و الحشود بالکامیرات و بوسائل متنوعة لیخمّنوا عدد الجموع. و کل الذین ینشطون فی هذا المجال و کل الذین رصدوا هذه التظاهرات بدقة فی هذه السنة رفعوا لنا تقاریر تقول إن حشود المتظاهرین فی طهران و المدن الکبرى و المعروفة کانت أکثر من السنوات الماضیة و أشدّ حماساً. أی إن شعارات الشعب کانت شعارات عمیقة و ذات مغزى و معنى و حماس. لماذا؟ المحللون الذین یدرسون مختلف القضایا و الشؤون فهموا، و نعتقد أن فهمهم هذا صحیح، بأن السبب هو اللهجة غیر المؤدّبة للمؤثرین فی السیاسات الاستکباریة تجاه شعب إیران. بسبب أنه جرت مفاوضات حول القضایا النوویة، صرّح الساسة الأمریکان بأن الشعب الإیرانی تراجع عن کلامه و تخلى عن أصوله و مبادئه! من هذه الخلفیة کانت لهجتهم تجاه شعب إیران لهجة غیر مؤدبة و مهینة. و قد سمع الشعب ذلک و علم به. حینما ینزل العدو إلى الساحة بوجهه الواقعی، أو بوجه قریب من وجهه الواقعی، سیکون لدى الشعب حوافز أکثر و همم أعلى للمشارکة، و لأن الشعب شاهد أن الأمریکان یسیئون الأدب تجاهه و یقولون إنه انفصل عن النظام، أراد أن یثبت فی الثانی و العشرین من بهمن أنه یعشق النظام الإسلامی و الجمهوریة الإسلامیة و رایة الإسلام المرفرفة من أعماق وجوده. هذا دلیل على حساسیة الشعب الإیرانی و غیرته حیال الأعداء، و شرور أعداء الجمهوریة الإسلامیة، و أعداء إیران. کانت هذه نقطة تتعلق بتظاهرات الثانی و العشرین من بهمن.
أما ما یتعلق بهذه السنة فقد سجّلت هنا بعض النقاط و لدیّ ما أقوله و أحاول أن ألخّص و اختصر - ضمن هذا المجال المتاح لنا الیوم، فالیوم هو یوم الجمعة و وقتنا ینتهی بصلاة الجمعة - إن شاء الله لأقول ما عندی ضمن هذا الوقت. و إذا بقیت نقطة لم تذکر فأتمنى أن یوضّحها للرأی العام أصحاب الخبرة و العلماء فی المجتمع الذین یدرکون سیاسات الجمهوریة الإسلامیة و طبیعتها فی الوقت الحاضر، و ما الذی یجری و یحدث فی الفترة الحالیة. کلامی - و ما أرید الیوم أن أقوله باختصار و إجمال - هو أن شعب إیران یجب أن یقوّی نفسه. هذا هو کلامی. الکلام عن الاقتدارالوطنی. أقول لشعبنا العزیز إذا لم یکن شعباً قویاً و إذا کان ضعیفاً فسوف یفرضون علیه منطق القوة و العسف. إذا لم یکن شعباً قویاً فإن ابتزازیی العالم سوف یبتزونه، و إذا استطاعوا فسوف یهینونه، و إذا استطاعوا فسیسحقوه بأقدامهم. هذه هی طبیعة العالم الذی یُدار بأفکار مادیة. کل من یشعر بالقوة و القدرة سوف یتعسف مع الذین یشعر بأن فیهم ضعفاً، سواء کان ذلک تجاه فرد أو تجاه شعب. یقول الشاعر المعروف:
الموت شیء طبیعی للضعیف
کل قویّ ضعفَ أولاً ثم مات
یقال إنهم جاءوا بدجاجة مطبوخة لشخص لا یأکل الدجاج و لا لحوم الحیوانات، فنظر لها و «ذرف الدموع من عینیه» و قال لها:
«استضعفوک فوصفوک فهلّا وصفوا شبل الأسد».
قال للفرّوج لو کنت تستطیع الدفاع عن نفسک و لک من نفسک قوة و اقتداراً لما تجرّأوا على قطع رأسک هکذا. إننی لا أعتقد بذلک الشاعر، و لا بأبی العلاء المعری الذی قیل هذا القول نقلاً عنه، لکننی اعتقد أن موت الضعیف أمر طبیعی فی عالم یُدار بالأفکار المادیة. هذا شیء أعتقد به. إذا لم یصحُ هذا الشعب على نفسه، و لم یقوّ نفسه، فسوف یتعسف الآخرون معه. بعض الشعوب تفصلها مسافات عن القوة و الاستقواء، و لا أمل لها بأن یکون لها من نفسها قوة تستطیع بها مواجهة العتاة و المتغطرسین فی العالم. لکن شعبنا لیس من هذا القبیل. فأولاً لدینا القابلیة الکبیرة على أن نکون أقویاء، و لدینا الکثیر من الإمکانیات و الطاقات، و قد تحرک شعبنا نحو الاقتدار الوطنی و قطع أشواطاً طویلة. و على هذا الأساس أرى أن الخارطة العامة لسنة 93 فی هذین العنصرین الذین ذکرتهما فی نداء تحویل السنة: الاقتصاد و الثقافیة بعزیمة وطنیة و إدارة جهادیة.
لیس استقواء شعب کامناً فقط فی أن یتوفر على أسلحة حربیة متطورة. طبعاً الأسلحة ضروریة بدورها، و لکن بالأسلحة وحدها لن یغدو أیّ شعب قویاً. حینما أنظر أجد ثلاثة عناصر، إثنان منها هما العنصران الذان ذکرتهما فی نداء بدایة العام، إذا جرى الاهتمام بهذه العناصر الثلاثة سیمکن لشعب أن یکون قویاً: العنصر الأول هو الاقتصاد، و الثانی هو الثقافة، و الثالث هو العلم و المعرفة. حول العلم قیل الکثیر على مدى هذه الأعوام الإثنی عشرة الماضیة، و قد کان هذا الکلام مؤثراً و الحمد لله. إننا فی الوقت الراهن نتقدم على صعید العلوم - و قد أعود و أشیر إلى هذا الجانب - و لکن حول الاقتصاد و الثقافة ینبغی إبداء اهتمام أکثر من الحدّ المألوف لنستطیع جعل اقتصاد البلاد بالشکل الذی لا یستطیع أحد فی ذلک الطرف من العالم بقراراته أو اجتماعاته التأثیر على اقتصاد بلادنا و على معیشة شعبنا. هذا شیء فی أیدینا نحن و یجب أن نفعله. و هذا هو الاقتصاد المقاوم الذی تم تبلیغ سیاساته فی شهر إسفند الماضی. و قد کانت لی اجتماعاتی مع المسؤولین و المدراء الکبار فی البلاد و تحدثنا بالتفصیل حول هذا الشأن، و قد تجاوبوا، بمعنى أن مسؤولی السلطات الثلاث کانوا هم أنفسهم مؤثرین و مشارکین فی إعداد هذه السیاسات، و رحبوا بها و قالوا إننا سوف نقوم بهذا الشیء و ننهض بأعبائه. أرید الیوم أن أتحدث قلیلاً لشعبنا العزیز عن الاقتصاد المقاوم، و أن یسمع الناس منی ما أروم ذکره حول هذا الموضوع.
الاقتصاد المقاوم هو ذلک الاقتصاد الذی یستطیع مقاومة الاهتزازات و التحریضات العالمیة، و لا یتقلب بسیاسات أمریکا و غیر أمریکا. إنه اقتصاد یعتمد على الشعب. هناک ثلاثة أسئلة حول الاقتصاد المقاوم سوف أطرحها. السؤال الأول: ما هو الاقتصاد المقاوم و ماذا یجب أن یکون و ماذا یجب أن لا یکون؟ ما هی خصوصیاته الإیجابیة و ما هی خصوصیاته السلبیة؟ و السؤال الثانی: هل الاقتصاد المقاوم الذی نرفع شعاره ممکن التحقیق، أی هل هو ممکن أم إنه محض خیال ساذج؟ و السؤال الثالث: إذا کان تحقیق الاقتصاد المقاوم ممکناً فما هی متطلبات ذلک، و ما الذی یتعیّن القیام به من أجل ذلک؟ سوف أجیب الیوم عن هذه الأسئلة الثلاثة فیما یتعلق بالشأن الاقتصادی. و بعد ذلک سأذکر نقاطاً عن الشأن الثقافی الذی اعتقد أنه على جانب کبیر من الأهمیة.
السؤال الأول: ما هو الاقتصاد المقاوم و ما یجب أن یکون و ما یجب أن لا یکون؟ إنه أولاً نموذج علمی مناسب لاحتیاجات بلادنا - و هذا هو الجانب الإیجابی من القضیة - لکنه لا ینحصر ببلادنا، فالکثیر من البلدان الیوم و بالنظر للاهتزازات الاجتماعیة و التقلبات الاقتصادیة التی وقعت طوال هذه الأعوام العشرین أو الثلاثین الأخیرة، فکّرت فی مثل هذا المشروع بما یتناسب و ظروفها. إذن النقطة الأولى هی أن ما نقوم به یمثل فی الوقت نفسه هموم البلدان الأخرى، و لیس شیئاً خاصاً بنا.
و ثانیاً قلنا إن هذا الاقتصاد ذاتی التدفق. فما معنى أنه ذاتی التدفق؟ معناه أنه یتدفق و ینمو من صمیم إمکانیات البلد ذاته و إمکانیات الشعب و طاقاته. نمو هذه الغرسة أو الشجرة یعتمد على إمکانیات بلادنا نفسها. هذا هو معنى التدفق الذاتی. لکنه فی الوقت نفسه لیس منکفئاً على نفسه. فلیس معنى هذا الاقتصاد المقاوم أن نحصر اقتصادنا ببلادنا و لا نخرج عن حدودها. لا.. إنه ذاتی التدفق لکنه فی الوقت نفسه خارجی التطلعات و له تواصله و تعامله مع الاقتصادات العالمیة، و یواجه اقتصادات البلدان الأخرى باقتدار. إذن، فهو ذاتی التدفق لکنه لیس داخلی التطلعات. نقول هذا لأن الأقلام و الألسن و العقول المغرضة حالیاً تعمل على کافة الأصعدة لتوحی بالقول: «نعم.. إنهم یریدون تحدید اقتصاد البلاد و حصره فی الداخل». یمارسون مختلف أنواع التحلیل من أجل صرف الشعب و المسؤولین عن هذا الطریق و هو طریق السعادة. لذلک أذکر هذه النقاط لتتضح الأمور للرأی العام.
النقطة الثالثة هی أن الاقتصاد الذی یطرح على أنه اقتصاد مقاوم له أساس شعبی، بمعنى أنه لا یدور حول محور الحکومة و لیست اقتصاداً حکومیاً بل هو اقتصاد شعبی یتحقق بإرادة الشعب و رسامیله و مشارکته. و کونه غیر حکومی لا یعنی طبعاً أن الحکومة لا تتحمّل مسؤولیات حیاله، بلى، تتحمّل الحکومة مسؤولیات البرمجة و تمهید الأرضیات و صناعة الإمکانیات و التوجیه و المساعدة. العمل و النشاط الاقتصادی بید الناس و للناس، لکن الدولة - باعتبارها مسؤولاً عاماً - تشرف و توجّه و تساعد، و تمنع و تصدّ الذین یریدون الاستغلال و الفساد الاقتصادی، و إذا احتاج أحد للمساعدة تساعده. إذن، تمهید الظروف و الأرضیات و التسهیل من واجبات الحکومة.
النقطة الرابعة هی أن هذا الاقتصاد کما قلنا اقتصاد علمی المحور، بمعنى أنه یستفید من التقدم العلمی و یعتمد على التقدم العلمی و یدور حول محور العلم، غیر أن هذا لا یعنی أنه اقتصاد مقتصر على العلماء و لا یمکن إلّا للعلماء أن یلعبوا دوراً فی الاقتصاد المقاوم، کلا، التجارب و المهارات - تجارب أصحاب الصناعات و العمال ذوی التجارب و المهارات المتنوعة - یمکنها أن تؤثر و تمارس دوراً فی هذا الاقتصاد. حین یقال إنه اقتصاد علمی المحور فلیس معنى هذا أن العناصر ذات التجارب من صناعیین و فلاحیین أنجزوا على مدى الأعوام الطویلة الکثیر من الأعمال الکبرى اعتماداً على تجاربهم، لن یکون لهم دور فیه، لا، یقع على کواهلهم دور مهم جداً.
خامساً یدور هذا الاقتصاد حول محور العدالة، أی إنه لا یکتفی بمؤشرات الاقتصاد الرأسمالی من قبیل النمو الوطنی و الناتج الإجمالی القومی. لیست القضیة أن نقول إن النمو الوطنی ازداد بهذا المقدار أو الإنتاج القومی الإجمالی ارتفع بهذه النسبة، کما هو المشهود فی المؤشرات العالمیة و فی الاقتصاد الرأسمالی. فقد یرتفع الناتج القومی الإجمالی فی بلد من البلدان ارتفاعاً کبیراً و مع ذلک یموت بعض أبناء ذلک البلد من الجوع! هذا شیء لا نقبله و لا نریده. و علیه فمؤشر العدالة - العدالة الاقتصادیة و العدالة الاجتماعیة - من المؤشرات المهمة فی الاقتصاد المقاوم، بید أن هذا لا یعنی إهمال المؤشرات العلمیة الموجودة فی العالم، لا، تلک المؤشرات أیضاً یجری الاهتمام بها و أخذها بنظر الاعتبار، و لکن العمل یدور فی الوقت نفسه حول محور العدالة. العدالة فی هذه الخطة و فی هذا الکلام لیست بمعنى توزیع الفقر، بل بمعنى إنتاج الثروة و زیادة الثروة الوطنیة.
سادساً لا شک فی أن الاقتصاد المقاوم هو أفضل الطرق لمعالجة مشکلات البلاد الاقتصادیة، لکن هذا لا یعنی أن الهدف هو معالجة مشکلات البلاد الحالیة - و التی یعود السبب فیها بمقدار معین إلى الحظر، و إلى خطأ هذه الخطة أو ذلک البرنامج بمقدار معین - لا ، إنما هو مشروع دائمی مستمر. الاقتصاد المقاوم معناه جعل الاقتصاد مقاوماً و تقویة أرکانه و أسسه. مثل هذا الاقتصاد سوف یزدهر و ینمو و یساعد الناس، سواء فی ظروف الحظر أو فی ظروف عدم وجود حظر. هذا عن السؤال الأول.
و السؤال الثانی هو هل هذه الخطة الاقتصادیة التی تسمّونها اقتصاداً مقاوماً أمر خیالی وهمی و أمل تحلمون بتحققه أم أنه عملیة ممکنة على أرض الواقع؟ الجواب هو إنها ممکنة عملیاً تماماً. لماذا؟ بسبب وجود الإمکانیات اللازمة لها، و لأن هذا البلد له الکثیر من الطاقات الاستثنائیة. و سوف أعرض بعض هذه الإمکانیات التی یتمتع بها البلد. و هی لیست بالأمور التی تحتاج إلى إحصائیات عجیبة و غریبة، بل هی أشیاء قائمة أمام أعیننا و الجمیع یراها.
من إمکانیاتنا المهمة هی الطاقات و الکوادر البشریة فی البلد. الطاقات الإنسانیة فی بلادنا من أضخم إمکانیات بلادنا، و تمثل فرصة کبیرة. و قد قلنا إن الشباب فی البلاد - من عمر الخامسة عشرة إلى الثلاثین - یشکلون حجماً هائلاً من شعب إیران، و هذا بحد ذاته إمکانیة. و لدینا عشرة ملایین خرّیج جامعة، فقد تخرّج طوال هذه الأعوام عشرة ملایین من شبابنا من الجامعات. و یدرس فی الجامعات الآن أکثر من أربعة ملایین طالب جامعی سوف یتخرّجون على مدى الأعوام القلیلة القادمة. لیعلم الشباب الأعزاء أن هؤلاء الملایین الأربعة الذین نتحدث عنهم یعادلون 25 ضعفاً بالقیاس إلى عدد الطلبة الجامعیین فی نهایة عهد الطاغوت، و عدد سکان البلاد بالقیاس إلى تلک الفترة ازداد ضعفاً واحداً فقط، لکن عدد الطلبة الجامعیین مقارنة بذلک الوقت ازداد 25 ضعفاً. لدینا فی الوقت الحالی هذا العدد من الطلبة الجامعیین و الخرّیجین. إضافة إلى ذلک لدینا الملایین من الکوادر الماهرة و صاحبة التجربة. و لاحظوا أن هؤلاء هم الذین أمدّوا القوات المسلحة بما تحتاجه خلال فترة الحرب. من مشکلاتنا خلال فترة الحرب المفروضة عطل الأجهزة، و قصف مراکزنا المختلفة، و خلوّ أیدی قواتنا المسلحة من المعدات اللازمة من قبیل وسائط النقل. فهبّ عدد من الصناعیین المهرة أصحاب التجربة من طهران و المدن الأخرى - و قد شهدتُ ذلک بنفسی فی بدایات الحرب، و کنت أراهم، و قد توفّقت فی الآونة الأخیرة أیضاً و الحمد لله فکان لی لقاء بجماعة منهم، و قد کانوا فی ذلک الحین شباباً لکنهم الیوم کهول، و مع ذلک لا زالوا یحملون نفس الحماس و التحفز - و خاضوا غمار ساحات الحرب فی الخطوط الأمامیة، و قد استشهد بعضهم، و قاموا بالتعمیرات و التصلیحات اللازمة، و صنعوا و أنتجوا، و کان من صناعاتهم الجسور العجیبة الغربیة التی تنفع القوات المسلحة فی الحرب، و غیر ذلک من المعدات و وسائط النقل و الطرق.. هذه الکوادر الماهرة صاحبة التجربة هی التی قامت بهذا، و هم موجودون الیوم و عددهم کبیر فی البلاد ما شاء الله، و هم لیسوا من الخرّیجین لکنهم أصحاب مهارة و تجربة، و قد یکونوا فی بعض الحالات أفضل و أنفع من الخرّیجین. هذه أیضاً من إمکانیاتنا الإنسانیة.. لدینا مثل هذه الطاقات و الکوادر فی مجال الزراعة أیضاً و فی المجال الصناعی.
و من الإمکانیات المهمة فی بلادنا المصادر الطبیعیة. تحدثت هنا فی العام الماضی عن النفط و الغاز، و قلت إن مجموع النفط و الغاز فی إیران هو الأول عالمیاً. أی لا یوجد بلد فی العالم یملک ما تملکه إیران من مجموع النفط و الغاز. نفطنا و غازنا مع بعضهما أکثر مما یمتلکه أی بلد من بلدان العالم شرقاً و غرباً. و فی هذه السنة حیث أتحدث لکم الآن حصلت اکتشافات لاحتیاطیات الغاز تشیر إلى ارتفاع احتیاطیاتنا و مصادرنا من الغاز عمّا کانت علیه فی العام الماضی. هذا هو وضع النفط و الغاز فی بلادنا. أکبر ذخائر الطاقة - التی یحتاجها العالم لضیائه و تدفئته و صناعته و ازدهاره - موجودة فی بلادنا. بالإضافة إلى ذلک هناک مناجم الذهب و المعادن النادرة المنتشرة فی کل أنحاء البلاد. أحجار الحدید و الأحجار الثمینة و أنواع الفلزات و المعادن الأسیاسیة اللازمة - و التی تعتبر أمّ الصناعات و أساسها - موجودة فی إیران. و هذه أیضاً من الإمکانیات الکبرى.
الإمکانیة الأخرى هی موقعنا الجغرافی. إننا جیران لخمسة عشر بلد و بیننا و بینهم ذهاب و إیاب. النقل و المواصلات و الترانزیت من الفرص الکبیرة فی بلادنا. هذا شیء متوفر لبلادنا و هناک إطلالة على البحار الحرة فی الجنوب، و على المیاه فی الشمال. یعیش فی هذه البلدان الجارة لنا نحو 370 ملیون نسمة، و هذا العدد من التواصلات و الجیران یعدّ فرصة کبیرة لازدهار اقتصاد بلد من البلدان. هذا فضلاً عن السوق الداخلیة عندنا. إنها سوق یصل عدد نسماتها إلى 75 ملیون نسمة، و هذه سوق مهمة بالنسبة لأیّ اقتصاد.
و من الإمکانیات الأخرى المتوفرة فی إیران البنى التحتیة الرقائقیة و الصلائدیة.. البنى التحتیة الرقائقیة من قبیل سیاسات المادة 44 ، و میثاق الأفق العشرینی، و الأعمال التی تمت خلال هذه الأعوام، و هناک أیضاً بنى تحتیة متنوّعة نظیر الطرق و السدود و الجسور و المعامل. تمثل هذه کلها أرضیة مناسبة جداً للتقدم الاقتصادی فی البلاد. هذه هی إمکانیات البلاد.
طیّب، قد یقول قائل: إذا لم یکن هناک حظر لکان ممکناً الاستفادة من هذه الإمکانیات، و لکن لأنه یوجد حظر فلن تستطیعوا الانتفاع من هذه الإمکانیات. هذا خطأ.. هذا الکلام غیر صحیح. فقد توصلنا فی الکثیر من المجالات الأخرى إلى محطات جد ممیزة و راقیة رغم وجود الحظر. من الأمثلة على ذلک إنتاج العلم، و من الأمثلة أیضاً الصناعة و التقنیة. لقد فرضوا علینا الحظر فی هذه المجالات و لا زالوا یفرضون الحظر. بخصوص العلوم المتطورة و العصریة لا تزال أبواب المراکز العلمیة العصریة المهمة فی العالم مغلقة بوجه العلماء و الطلبة الجامعیین الإیرانیین، و مع ذلک تقدمنا فی مجال النانو، و فی المجال النووی، و فی الخلایا الجذعیة، و فی الصناعات الدفاعیة، و فی صناعة الطائرات من دون طیار، و الصواریخ، تقدمنا فی کل ذلک على الرغم من أنف العدو، فلماذا لا نستطیع التقدم فی الاقتصاد؟! ما دمنا قد حققنا کل هذه النجاحات فی المیادین و المجالات المختلفة، إذن لو عقدنا العزیمة و تعاضدنا من أجل التقدم فی الاقتصاد سنستطیع الوصول إلى الازدهار. یجب أن لا نسمّر أعیننا على العدو و ما یجود به و متى سیرفع عنا هذا الحظر و متى سیوافق على المسألة الفلانیة.. لیذهب إلى الجحیم..! ینبغی أن ننظر و نرى ما الذی نستطیع نحن فعله.
و لأطرح الآن السؤال الثالث و أجیب عنه. کان السؤال الثالث هو: ما هی اللوازم و الأعمال المطلوب إنجازها من أجل تحقیق هذه العملیة الکبرى، أی الاقتصاد المقاوم؟ أقولها باختصار: أولاً یجب على المسؤولین دعم الإنتاج الوطنی. الإنتاج الوطنی أساس الازدهار الاقتصادی و حلقته الأساسیة. على المسؤولین دعم الإنتاج الوطنی. کیف؟ إذا کانت هناک فی موطن من المواطن حاجة لقانون معین فیجب أن یدعموا قانونیاً، و إذا کانت هناک حاجة لدعم قضائی فیجب أن یقوموا بهذا الدعم، و إذا کانت هناک فی موطن ما حاجة لدعم تنفیذی یجب أن یشجّعوا و یعملوا اللازم. یجب القیام بهذه الأمور. یجب أن یزدهر الإنتاج الوطنی.
ثانیاً یجب على أصحاب الرسامیل و الطاقات العملیة و هم المنتجون أن یهتموا للإنتاج الوطنی. بأیّ معنى؟ بمعنى زیادة الفائدة. الفائدة معناها الانتفاع الأمثل من الإمکانیات الموجودة و إلى أقصى حد. العامل حینما یعمل یجب أن یعمل بدقة. «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه». هذا هو معنى الفائدة. و هذا الحدیث مرویّ عن الرسول الأکرم (ص). الذی یستثمر یجب أن یحاول أن ینتفع أکبر قدر ممکن من استثماره، بمعنى أن یقلل تکالیف الإنتاج، فبعض حالات سوء التدبیر و السیاسات الخاطئة من شأنها رفع تکالیف الإنتاج و بالتالی تقلیل فوائد الاستثمار و العمل.
ثالثاً ینبغی لأصحاب الرسامیل و الأرصدة أن یرجّحوا الأنشطة الإنتاجیة على غیرها من الأنشطة. لقد شاهدنا أصحاب الرسامیل - الرسامیل الکبیرة أو الصغیرة - و الذین کان بمستطاعهم أن یوظفوها فی مجالات معینة یکسبوا من خلالها الکثیر من الأرباح، لم یفعلوا ذلک، بل وظفوها فی مجال الإنتاج و قالوا نرید تقویة إنتاج البلاد. و هذه حسنة و صدقة و من أفضل الأعمال. أصحاب الرسامیل - سواء کانت هذه الرسامیل قلیلة أو ضخمة - لیوظفوها فی خدمة إنتاج البلاد أکثر.
النقطة الأخرى هی أن یروّج الناس للإنتاج الوطنی و على کل المستویات. ما معنى هذا؟ معناه القضیة التی ذکرتها هنا بکل إصرار قبل سنتین أو ثلاث سنوات فی هذا المکان، و لحسن الحظ عمل بها بعض الناس، و لکن ینبغی أن یعمل الجمیع، و هی «استهلاک المنتجات الداخلیة». أعزائی.. حینما تشترون بضاعة داخلیة بدل البضاعة الخارجیة فإنکم توفرون بنفس المقدار فرص عمل، و تدفعون العامل الإیرانی لعرض إبداعاته فی السوق. حینما یجری استهلاک البضاعة الداخلیة فإن منتج تلک البضاعة و صانعها - و له إبداعاته و ابتکاراته - سوف یضاعف یوماً بعد یوم من ابتکاراته. حینما تستهلکون البضاعة الداخلیة تزیدون من الثروة الوطنیة. فی الماضی، أی فی عهد الطاغوت، کان من التقلیدی و الدارج ترجیح استهلاک البضاعة الأجنبیة. حینما کانوا یریدون شراء بضاعة یسألون هل هی داخلیة أم خارجیة؟ فإذا کانت خارجیة یرغبون فیها أکثر. یجب أن یتغیر هذا و یکون العکس هو الدارج. لا نقول إن شراء البضاعة الخارجیة حرام، لکننا نقول إن ابتیاع البضاعات الداخلیة ضرورة لجعل الاقتصاد مقاوماً، و عملیة تترک تأثیراتها على کل شیء فی البلاد. یجب التنبّه لهذه النقطة. و هذا من دور الشعب کله. طبعاً هنا أیضاً و مثل کل المواطن یتحمل المسؤولون و مدراء البلاد مسؤولیات أکبر من الآخرین. الکثیر من حالات الإسراف و التبذیر فی سلوک الناس سببها نظرهم لسلوک الذین یعتبرونهم «الأکابر». إذا لم یکن هناک أسراف على المستویات العلیا فسوف یقل الإسراف بین الناس. إذن، ترجیح الإنتاج الداخلی من الممارسات المهمة.
لألخّص هذا الجانب من کلمتی و أقول: الاقتصاد المقاوم معناه جعل أرکان الاقتصاد مقاومة و هذا من واجباتنا العامة الیوم، و بوسع الجمیع أن یمارسوا دورهم فیه، سواء المسؤولون و مسؤولو السلطات الثلاث، أو کل أبناء الشعب، أو أصحاب المهارات، أو أصحاب الرسامیل و الأرصدة، أو أصحاب الرأی و الخبرة. طبعاً کان هذا الذی قلناه خلاصة لما یجب قوله، و یقع على عاتق المختصین و الخبراء عرض التفاصیل.
الجانب الثانی من کلامی هو حول الثقافة. و أقول بکلمة واحدة: أعزائی.. الثقافة أهم حتى من الاقتصاد. لماذا؟ لأن الثقافة تعنی الهواء الذی نتنفسه. إنکم مضطرون لتنفس الهواء شئتم ذلک أم أبیتم. فإذا کان هذا الهواء نقیاً کانت له آثار معینة فی أجسامکم، و إذا کان هواء ملوثاً کانت له آثار و تبعات أخرى. ثقافة البلد کالهواء، إذا کانت ثقافة صحیحة سلیمة کانت لها آثار. کنا الآن نتحدث عن الإنتاج الداخلی، و إذا أردنا تحقق ظاهرة استهلاک المنتجات الداخلیة بالمعنى الحقیقی للکلمة یجب تکریس ثقافة استهلاک المنتجات الداخلیة فی أذهان الناس. و إذا أردنا للناس أن لا یسرفوا فیجب أن تکون هذه هی قناعة الناس، و هذا معناه الثقافة. الثقافة معناها قناعات الناس و معتقداتهم و إیمانهم و عاداتهم، و الشیء الذی یتعاملون معه فی حیاتهم الیومیة، و یلهمهم فی تحرکاتهم و أعمالهم. هذه هی الثقافة. إذن، هی على جانب کبیر من الأهمیة.
على الصعید الاجتماعی مثلاً تعدّ النزعة القانونیة و أن یحترم الناس القانون، ثقافة. و التعاون الاجتماعی ثقافة. و تشکیل العائلة و الزواج یعدّ ثقافة. و تعدد الأولاد ثقافة. إذا کانت توجّهات الناس و رؤیتهم فی هذه الأمور توجّهات صحیحة فستکون حیاة المجتمع بشکل، و إذا کانت توجّهاتهم خاطئة لا سمح الله فستکون الحیاة على شکل آخر، و سنبتلى لا سمح الله بنفس البلاء الذی نزل حالیاً بالبلدان التی هدمت العائلة و صرح العائلة و أطلقت العنان للشهوات - وَاتَّبِعوُا الشَّهَواتِ فَسَوفَ یلقَونَ غَیا - (1) . إذن ترکیز الأعداء منصبّ على الثقافة أکثر من باقی المواطن. لماذا؟ للدور و التأثیر الحاسم الذی تتمیّز به الثقافة. و الهدف الذی یستهدفه الأعداء فی تحرکاتهم على المستوى الثقافی هو إیمان الناس و معتقدات الشعب. على المسؤولین الثقافیین أن یراقبوا و یرصدوا الثغرات الثقافیة. الثغرات الثقافیة خطیرة جداً. یجب أن یکونوا حساسین و یقظین. لا نروم القول إن کل الآفات الثقافیة هی من فعل الأجانب، لا، فنحن أیضاً مقصرون.. المسؤولون على اختلافهم.. المسؤولون الثقافیون، و المسؤولون غیر الثقافیین، و قلة العمل و الأخطاء، هذه کلها مؤثرة، و لا نلقی الذنب کله على الأعداء، لکن تواجد العدو على المستوى الثقافی مما لا نستطیع نسیانه. الیوم و منذ الأیام الأولى للثورة صبّت الأجهزة الإعلامیة للعدو کل قدراتها و طاقاتها على زعزعة اعتقاد الناس بأرکان هذه الثورة و مرتکزاتها. فهل هذا عمل ثقافی؟ استهداف إیمان الناس و مهاجمة معتقداتهم و قناعاتهم القلبیة.. هذا مما لا یمکن للمرء تجاهله.
هنا قد یطرح سؤال یقول: طیّب، حین تقولون إن على مسؤولی البلاد أن یکونوا حساسین، فکم یجب أن یکونوا حساسین؟ ألا یتنافى هذا مع الحریة، و هی من شعارات الثورة، و من أرکان الجمهوریة الإسلامیة؟ الجواب هو: لا، إنه لا یتنافى مع الحریة أبداً، فالحریة غیر التحلل، و الحریة غیر التخلی عن کل الضوابط. الحریة - و هی نعمة إلهیة کبرى - لها ضوابطها، و لا معنى للحریة من دون ضوابط. إذا کان البعض فی داخل البلاد یعملون على استئصال إیمان الشباب فلا یمکن التفرّج علیهم تحت طائلة الحریة. کما أنه إذا أراد شخص توزیع الهیروئین و سائر المواد المسمّمة لجسم الإنسان و الجالبة التعاسة للعوائل، فلا یمکن العقود و عدم الاکتراث. أنْ نرى البعض یستخدمون الفن و البیان و مختلف الأدوات و یستخدمون المال لقطع طریق الناس و الهجوم على إیمانهم و خلق الثغرات فی ثقافة الناس الإسلامیة و الثوریة، فنقعد و نتفرج و نقول إنها حریة، فمثل هذه الحریة غیر موجودة فی أی مکان من العالم! فی أیّ مکان من العالم.
البلدان التی تتشدق بالحریة و تدّعیها متشددة جداً بشأن الخطوط الحمراء التی ترسمها. لاحظوا أن أحداً فی البلدان الأوربیة لا یجرؤ على التحدث عن الهولوکاست التی لیس من المعلوم هل هی صحیحة أصلاً أم لا، و إذا کانت صحیحة فبأیّ شکل کانت. التصریح حول الهولوکاست و التشکیک فی الهولوکاست یعد من أکبر الذنوب، و هم یحولون دونه و یمنعونه، و یلقون القبض على من یفعله و یسجنونه و یلاحقونه قضائیاً، و یتشدقون مع ذلک بالحریة. ما یعدّ بالنسبة لهم خطاً أحمر یقفون دون تخطیه بأسنانهم و مخالبهم و بکل قوة و عصبیة. فکیف یتوقعون منا تجاهل الخطوط الحمراء العقیدیة و الثوریة لبلادنا و شبابنا؟ إذا استهدف شخص روح الاستقلال الوطنی - یوجد الآن أشخاص إذا جرى الکلام عن الاستقلال یستهزئون بالاستقلال و یقولون إن هذا تخلف، و ما عسى أن یکون الاستقلال؟ - و أراد التنظیر للتبعیة، و سخر من الاستقلال، و زعزع قلوب الشباب حیال الحیاة المستقلة، فلا یمکن عدم فعل شیء تجاهه، بل ینبغی أن یکون هناک ردّ فعل. شخص قد یوجّه الإهانات لضروریات المجتمع الأخلاقیة و الدینیة، أو یستهزئ باللغة الفارسیة، و یهین الأخلاق الإیرانیة، و هذه أمور موجودة و توجد فی الوقت الحالی. البعض یحاولون أن یحطوا من قدر روح العزة الوطنیة لدى الشباب الإیرانیین، و یکرروا دوماً نسبة الأخلاق و الطباع السلبیة لهذا و ذاک، فیقولوا: تعلموا من الأوربیین، تعلموا من الغربیین، إنهم یتحمّلون بعضهم، و نحن لا نتحمّل بعضنا! هل هذا هو واقع القضیة؟ فی شوارع البلدان الأوربیة و العواصم الأوربیة - و لا یعود هذا لما قبل عشرین عاماً و خمسین عاماً - امرأة تراعی حجابها قلیلاً تتعرّض لهجوم عدد من الشباب فیضربوها أمام أنظار الناس و یجرحوها أو یقتلوها، و لا یتجرّأ أحد على القول: لماذا ! یشعلون النار فی شخص أمام أنظار الناس لأنه لیس من أهل تلک البلاد! هل هذا تحمّل الطرف المعارض؟ و هذا شیء وقع فی الآونة الأخیرة. قبل أشهر من الآن قام شباب شقاة فی إحدى مدن بلد أوربی بضرب شخص إیرانی ضرباً مبرحاً و إراقة البنزین علیه و إشعاله بالنار، و الجیران یقفون یتفرجون هکذا دون أن یبدوا أیّ ردّ فعل! هل هذا تحمّل للمعارضین؟
الذین یوجّهون الإهانات لشعب إیران و الوطنیة الإیرانیة و الأخلاق و الطباع الإیرانیة، و الذین یزعزعون الرکائز الإسلامیة فی الأذهان، و الذین یهاجمون الشعارات الرئیسیة للثورة بجد، و الذین یقللون من قیمة المؤسسة العائلیة و یعتبرون الزواج بلا معنى - و هذه أمور موجودة الیوم فی مجتمعنا، و هناک من یفعل هذا - و الذین یعتبرون طلب اللذة شیئاً محبذاً و قیمة و یروجون لأصالة اللذة و هی هدیة الثقافة الغربیة، و یدافعون عن کل ما یحقق اللذة للإنسان، و هناک بالتالی شخص تتحقق له اللذة بالإدمان، و آخر بالشهوات الجنسیة، و آخر بالانهیال بالضرب على هذا و ذاک.. یعتبرون کل ما یحقق اللذة أمراً مباحاً.. لا یمکن القعود بلاأبالیة إزاء الذین یروّجون لهذه الأشیاء. البعض یروّجون للإباحیة. و على الأجهزة المختصة أن تشعر بالمسؤولیة تجاه ذلک. فی عملیة التخریب الثقافی، ما یفعله المخربون الثقافیون هو أن یبثوا التشکیک و التردد بین الناس بدل إشاعة العزیمة الوطنیة الراسخة. الشعب ما لم تکن لدیه عزیمة راسخة فلن یستطیع الوصول إلى أیّ مکان. یحاولون ضعضعة العزیمة الراسخة للشعب فی ما یتعلق بالقضایا المهمة ذات الصلة بمصیر البلاد. ینشرون الشعور بالدونیة و الحقارة بدل الشعور بالعزة و الثقة بالذات الوطنیة، و یبثون الشبهات و انعدام العقیدة بدل الإیمان الراسخ، و بدل ترویج قیم العمل و السعی و الهمّة العالیة یروجون لطلب اللذة و الشهوات و ما إلى ذلک. هذه أشیاء و أمور تحصل، و على الأجهزة الثقافیة الرسمیة فی البلاد أن تنهض بواجباتها مقابل ذلک. طبعاً بعض الواجبات واجبات إیجابیة و بعضها واجبات دفاعیة، کلا النوعین من الأعمال و الواجبات یجب أن یتم، سواء الواجبات الإیجابیة أو الواجبات الدفاعیة. الأجهزة الإعلامیة فی بلادنا - سواء منها المرتبطة بالحکومة مباشرة أو غیر المرتبطة بالحکومة مباشرة - یجب أن لا تهاب الضجیج و اللغو الذی تثیره وسائل الإعلام الأجنبیة أو وسائل الإعلام التی تتحدث بالنیابة عن الأجانب، و لا تنظم تصرفاتها وفقاً لها. هذا ما یتعلق بالأجهزة الثقافیة الرسمیة.
لکن النقطة الأهم فی کلامی هی خطاب للشباب الذین یمارسون نشاطات ثقافیة تلقائیة فی کل أنحاء البلاد، و هی و الحمد لله نشاطات واسعة جداً. أرید أن أقول لهؤلاء الشباب سواء کانوا فی طهران أو فی مختلف المدن و فی مختلف المحافظات و فی مشهد نفسها و فی الکثیر من المدن الأخرى، و یمارسون أعمالاً ثقافیة بإرادتهم و بحوافزهم - و قد أنجزوا أعمالاً و إنجازات جیدة جداً و نحن على علم ببعضها و الحمد لله - أقول لهم و أطلب منهم أن یتابعوا العمل بکل جدیة. لیعلموا أن تنمیة هذه الأعمال الثقافیة بین الشباب المؤمن المتدین الثوری له دور کبیر جداً فی تقدم البلاد و صمودنا بوجه أعداء هذا الشعب. أضف إلى ذلک المرجعیات الثقافیة. ما معنى المرجعیات الثقافیة؟ إنهم علماء الدین و الأساتذة و المثقفون الثوریون و الفنانون الملتزمون، هؤلاء علیهم أن یتابعوا و یواصلوا نظراتهم النقدیة لأوضاع البلاد الثقافیة، و ینبّهوا للأخطاء. أنا طبعاً اعتقد فی ما یتعلق بالتنبیه للأخطاء أنه یجب عرض الآراء الصحیحة بمنطق متین و بیان واضح. إننی لا أوافق توجیه الاتهامات و إثارة الضجیج، و لا أوافق التکفیر و رشق هذا و ذاک بالاتهامات. ما اعتقده هو أن المنظومة الثوریة فی البلاد - و هی تضم و الحمد لله الکثیر من الشباب الإیرانی و أصحاب الرأی و الاختصاص و الأساتذة و الشخصیات البارزة و الخریجین فی إیران - بمستطاعها النزول إلى الساحة و ممارسة النقد بمنطق رصین، و عرض نقاط الضعف و النقاط السلبیة على المسؤولین. أحیاناً لا یتفطن المسؤول إلى ما یحدث فی المجتمع، لکن ذلک الشاب مُندکّ بالمجتمع و یدرک ما یحدث. تلک العزیمة الوطنیة و الإدارة الجهادیة التی تحدثنا عنهما تتجلى بهذه الصورة على الصعید الثقافی.
فی ختام کلمتی أشیر إلى نقطة لکم یا شعب إیران: اعلموا أن واقع المجتمع العالمی لا یسیر طبقاً لإرادات أمریکا و نوایاها. ما أراد الاستکبار العالمی و أعداء الشعب الإیرانی العنودون تحققه لم یتحقق فی الساحة العالمیة، و سوف لن یتحقق إن شاء الله. لقد فشلت أمریکا فی فلسطین. الخطة التی رسموها لفلسطین و بذلوا الکثیر من المساعی لتطبیقها لم تتحقق و سوف لن تتحقق إن شاء الله. لقد أرادوا تبدیل بلد فلسطین إلى بلد یهودی، بمعنى أن لا یستطیع الفلسطینیون - سواء کانوا من المسلمین أو المسیحیین - العیش فی فلسطین، أی إنهم أرادوا القضاء على فلسطین تماماً. لقد تابعوا هذا الهدف و بذلوا الکثیر من الجهود و المساعی طوال هذه الأعوام، لکنهم لم یستطیعوا. لم تصل أمریکا لنتائجها فی فلسطین، و لم تصل لنتائجها فی سوریة، و کذلک فی العراق، و کذلک فی أفغانستان و فی باکستان، لم تتحقق مقاصدها. و فی الآونة الأخیرة تلاحظون و تسمعون أن مخططات أمریکا أخفقت. و یجب أن نعلم أنهم فشلوا فی بلدنا العزیز أیضاً بعد ثلاثین عاماً من المساعی ضد هذه الثورة و ضد الشعب الثوری، و المؤشر على ذلک هو تواجد الجماهیر و مشارکتها فی الساحة. هذا ما قالته الشخصیات المؤثرة فی الحکومة الأمریکیة و النظام الأمریکی بصراحة. قالوا: لقد فرضنا الحظر و ضاعفناه لننزل الشعب الإیرانی إلى الشوارع ضد النظام. لقد قالوها بصراحة: إن الهدف من الحظر هو استئصال الثورة و وضع الشعب مقابل النظام الإسلامی. فماذا کانت النتیجة؟ کانت النتیجة ما قلناه، فی سنة 1392 أقیمت انتخابات بمشارکة شعبیة عالیة، و خرجت فی الثانی و العشرین من بهمن سنة 92 تظاهرات أکثر حماساً و ضخامة من تظاهرات الأعوام السابقة، و هذه هی الفکرة التی کرّرتُها مراراً: لیعلم شبابنا الأعزاء أن المستقبل لکم و أعداؤکم محکوم علیهم بالهزیمة بتوفیق من الله، و نتمنى أن یأخذ الله تعالى بأیدیکم جمیعاً إلى سبل السعادة، و یرضی عنا القلب المقدس لإمامنا المهدی المنتظر (عج).
و السّلام علیکم و رحمة الله و برکاته.
الهوامش:
1 - سورة مریم، شطر من الآیة 59 .
المصدر: http://arabic.khamenei.ir