تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22
بقلم نائب وزیر الخارجیة السوریة د. فیصل المقداد

سوریة تقاوم... سوریة تنتصر

تقع سوریة الآن فی مرکز الاهتمام العالمی، وقد کانتْ سوریة فی قلب أحداث العالم طیلة تاریخها. لم ألتقِ بعربی أو مع فیتنامی وصینی وأمیرکی لاتینی وأفریقی وحتى «أوروبی» إلّا وحدثنی عن سوریة.
رمز الخبر: ۶۱۰۳۳
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۳:۰۰ - 01November 2014

سوریة تقاوم... سوریة تنتصر

د. فیصل المقداد

تقع سوریة الآن فی مرکز الاهتمام العالمی، وقد کانتْ سوریة فی قلب أحداث العالم طیلة تاریخها. لم ألتقِ بعربی أو مع فیتنامی وصینی وأمیرکی لاتینی وأفریقی وحتى «أوروبی» إلّا وحدثنی عن سوریة. وکل ما أسمعه عن سوریة یثیر بی نشوة أننی ابن سوریة، أنّنی ذرّة من تراب هذا الوطن الطاهر، بوابة التاریخ، أول العالم وآخره، حاضره وغده، نوره ونیرانه.

أحبک یا وطنی الصغیر لأنّک عالمی الکبیر، وما یحزننی هو أنّنی لا أستطیع احتکار حبک، فالعاشق لا یرید أبداً أن یشارکه حتّى أقرب الناس إلیه حبه. لکنّنی ولأنّنی مخلص فی حبک، أیها الوطن الغالی، أعتز بمحبّة الجمیع لک… ففی دمشق بدأ العالم المتمدّن، أوّل عاصمة ما زالت مأهولة فی التاریخ. أمّا حلب وبصرى وحمص وحماه وتدّمر ومدن ما بین النهرین فهی حواضر الإنسانیّة التی یقف إنسان القرن الحادی والعشرین مشدوهاً أمام عظمتها بخشوع وذهول.

سوریة هی ملک شعبها، لکنّها کذلک کنز إنسانی، وهی الوطن الثانی لکل إنسان فی العالم کما قال مدیر متحف اللوفر الأسبق. وفی تاریخها الطویل، شهدت سوریة مرور ملایین المهاجرین على أرضها، فبقی منهم من أقام فیها وکانت وطنه الجدید، وعبَرها آخرون بسلام إلى بلدان اختاروها لأنفسهم. أمّا من بقی على أرض سوریة فقد اندمج بتاریخها وأدیانها ولغتها وموزاییک أطیافها العرقیّة والثقافیّة والدینیّة بکل تنوعات ذلک، المسیحیّة والإسلامیّة، فکانت سوریة عائلة واحدة یتضامن فیها الجار مع جاره فی أفراحه وأتراحه وفی الدفاع عن الوطن عندما تدلّهم الخطوب وینادی المنادی الشعب لمواجهة الأعداء.

لقد قرأنا التاریخ السوری بکل اعتزاز على رغم أنّه لم یکن کلّه صفحات تقدّم وازدهار وانتصارات وصفحات علم وثقافة، بل إنّ التاریخ السوری شهد صفحات حزینة لأنّ سوریة جغرافیّاً وسیاسیّاً کانت محطة لأطماع أعداء الحضارة والسلام والاندماج الاجتماعی. لکنّنا لم نقرأ فی کتب التاریخ أنّ سوریة قد تعرّضت لما تتعرّض له الآن، وفی الربع الأوّل من القرن الحادی والعشرین من قتل ومجازر ودمار لکل ما هو سوری وإنسانی. وها هی الولایات المتحدة، وبناءً على تعلیمات «إسرائیلیّة» تتعاون مع اتحادها الأوروبی وأدواتها المتخلّفة من ملوک وحکّام وإخوان مسلمین وتکفیریین ومتشددین و«داعشیین» فی المنطقة وخارجها، بما فی ذلک من حاقدین فی ترکیّا والسعودیّة ووهابی وإخوان مسلمی هذه الدول لتدمیر سوریة لأهداف لا علاقة لها بتقدّم الإنسان ورفاهیته.

على رغم مرور وعبور قتلة وغزاة، وارتکاب هؤلاء مجازر وتدمیر فوق تراب سوریة، إلّا أنّ الدمار وسفک الدماء والمجازر التی یرتکبها من یزعمون أنّهم قادة حضارة الیوم بالتعاون مع داعشییهم أو ما یقوم به ما یُسمّى «الجیش الحر» وکتائب «المجاهدین» وألویة «الثورة» وکتائبها خلال أیام عدة، یفوق عملیاً ما قام به الغزاة من خراب عبر التاریخ کلّه، إذ سرق القتلة الجدد آثار سوریة وقاموا بتهریبها حتّى وصلت إلى کل أنحاء العالم، أمّا الأوابد التاریخیّة التی بناها السوریون القدماء وحافظ علیها أحفادهم، فإنّ بعضها أصبح رکاماً على ید هؤلاء المجرمین الذین یلقنهم قادة فرنسا وبریطانیا وآخرون فی أوروبا دروساً فی کیفیّة تدمیرها وإحراقها بسلاح الحقد «المعتدل» وغیر «المعتدل» وبالسلاح «الفتّاک» وغیر «الفتاک» حیث یعلن من یدّعی قیادته للحضارة الإنسانیّة الآن تقدیمها «کمساعدات إنسانیّة».

بدأت المؤامرة «الإسرائیلیّة» لقتل سوریة وتمزیق دول الوطن العربی بعد انتصارات حرب تشرین التحریریة عندما وقّعت مصر اتفاقیة کامب دیفید ووقّعت الأردن اتفاقیة وادی عربة، بهدف تطبیع العلاقات مع «إسرائیل» على حساب القضیّة العربیّة المرکزیّة، قضیّة فلسطین. وقد شارک فی تلک المؤامرة عدد من سیاسیی أوروبا المفلسین سیاسیّاً وأخلاقیّاً، إضافةً إلى الدول العربیّة التی موّلت التطبیع مع «إسرائیل» سرّاً وعلناً، لأنّ دورها الوظیفی کان ومازال ضرب أی توجّه عربی لترسیخ الهویة القومیّة وتوحید الجهود ضد أعداء الأمّة. وعندما فشلت کل هذه المحاولات فی تطبیع علاقات مصر والأردن والسعودیّة وآخرین مع «إسرائیل»، انتقل التنسیق «الإسرائیلی» الأمیرکی لحلفاء جدد کانوا على استعداد لتنفیذ المخططات «الإسرائیلیّة» بالبعدین الدینی والاجتماعی، ولم یجدوا أمامهم إلّا الإخوان المسلمین الذین وعدوا أسیادهم بتنفیذ المخطّط لتدمیر الأمّة العربیّة وضمان المصالح «الإسرائیلیّة» أوّلاً، والغربیّة ثانیاً فی المنطقة. فکانت أحزاب الإخوان المسلمین فی ترکیّا ومصر ولیبیا وتونس ودول أخرى جاهزة للانقضاض على منجزات شعوب هذه البلدان، تحت ذرائع ثبت أنّها دنیئة، ومرفوضة من قِبَل الشعب العربی فی هذه البلدان وغیرها.

لکن سوریة لیست شعوراً رومانسیّاً نبیلاً فقط، فهی لم تفتح أسوارها وأبوابها لغازٍ ولم تسمح للقتلة بعبور أسواقها التی تعبق بروائح العطور والزعتر والغار وزهر اللیمون والیاسمین. وعندما جاء دورها على لائحة الصهیونیّة ومن یدعمها بهدف کسر صمودها وقهر إرادتها، لم تخضع ولم تنکسر، وأعلنت منذ الیوم الأوّل أنّها لن تسمح بتمریر المؤامرة الصهیونیّة علیها وعلى شعبها وعلى أمّتها. فإذا کان الهدف هو فرض استسلام دمشق للعدو «الإسرائیلی» وقهر آخر موقع صمود عربی، وإذا کان الهدف هو فرط عقد جبهة المقاومة والمواجهة العربیّة لتمریر المؤامرة، وإذا کانت أهداف المؤامرة هی عدم السماح لسوریة فی أن تکون الرمز والمثال والقدوة التی حقّقها شعبنا وقیادته، فإنّ سوریة کانت تعرف أنّ المهمّة الملقاة على عاتقها من قِبَل أمّتها وأصدقائها هی أن تواجه المعرکة وتفشل المؤامرة مهما کان الثمن والتضحیات، لم تقبل الخنوع والرضوخ لمخططات الأعداء وقرّرت أن تقاوم وهی تعرف أنّ ثمن الصمود سیکون باهظاً.

لا یمکن إرکاع سوریة الحضارة والتاریخ والکرامة من خلال حملات إعلامیّة غربیّة وخلیجیّة مکشوفة جرى ترتیبها قبل سنوات من خلال تحالفات بین دول ورؤساء وأمراء لا یربط بینهم سوى الحقد على سوریة ومواقفها وإنجازاتها. ولا یمکن إسقاط سوریة لأنّ بعض المرتزقة الذین استأجروا حفنة من تجّار الارتزاق الذین افتعلوا حوادث هنا وهناک ورفعوا شعارات لقنتّهم إیاها مدارس الانقلابات والثورات المزیّفة! وأخیراً لا یمکن السماح بتمریر المؤامرات «الإسرائیلیّة» التی قامت بتسلیح مجموعات إرهابیّة أرادت السعودیّة وأسیادها فی الغرب من خلالها تفتیت سوریة وإنهاء دورها المثال ووجودها الرمز!

لم یکن أمام سوریة کثیر من الخیارات، فهی إمّا أن تنتصر أو أن تنتصر، لا خیار آخر أمامها. وما عانته دولنا العربیّة وانفضاح مؤامرة السعودیّة وغیرها التی وجّهت طائراتها لغزو لیبیا تحت رایة الناتو وأعداء الأمّة الآخرین، عزز قناعة شعب سوریة باتخاذ قرار المواجهة بقیادة الرئیس بشار الأسد لخوض المعرکة بعد استنفاد الحلول السیاسیّة کافّة والوساطات التی تمّت لوقف قتل سوریة على ید المرتزقة وإرهابیی العالم. فهل ارتکبت سوریة أیّة جریمة عندما أعلنت منذ الیوم الأوّل أنّها تواجه إرهاباً وأنّه یشرّفها أن تخوض هذه المعرکة؟ خصوصاً أنها لم تتعوّد على رفع الرایة البیضاء والاستکانة للابتزاز والضغوط، لأنّها لو ألقت برایة الصمود والمواجهة جانباً لکانت قد تخلّت عن واجبها المقدّس فی الحفاظ على إرثها النضالی وعن حق أمّتها فی العیش کریمة معافاة.

وهکذا هبّت سوریة جیشاً عقائدیّاً وشباباً ونساءً لدحر المؤامرة والعدوان المباشر علیها. وسطّرت دماء شهداء سوریة وجرحاها أروع قصائد النبل والبذل والسخاء والکرم دفاعاً عن الأرض والتاریخ ومصیر الأمّة وقضایاها العادلة. أرسلت الولایات المتحدة وحلفاؤها الأوروبیون کل إرهابییهم وقتلتهم إلى سوریة على مرأى أجهزة استخباراتها. وقامت حکومة أردوغان، برعایة مباشرة من رئیس وزرائها الآن أحمد داوود أوغلو ورئیس أجهزة استخباراتها، بتسلیح هؤلاء الإرهابیین وتدریبهم وإرسالهم عبر الحدود إلى سوریة. وقام بعض حکّام الخلیج، على رغم اختلافاتهم المضحکة حول من سیقدّم خدماته وعمالته أکثر لـ«إسرائیل» وأمیرکا بدفع ملیارات الدولارات لقتلة الشعب السوری. وفی کل مرّة کانت تقترب فیها سوریة من تحقیق الانتصار، کانت هذه الأنظمة والحکومات الغربیّة والنظام الترکی تزید من دعمها للإرهاب والقتل والدمار فی سوریة، الأمر الذی أدّى إلى إطالة الأزمة وسقوط مزید من الضحایا السوریین المدنیین الأبریاء والأطفال والنساء وکبار السن وتدمیر البنى التحتیّة السوریّة بما فی ذلک من مستشفیات ومدارس…

ومما لا مجال لإخفائه هو ذلک التحالف المکشوف بین قادة المجموعات الإرهابیّة المسلّحة و«إسرائیل»، وخصوصاً مهاجمة المجموعات الإرهابیّة المسلّحة للمخیمات الفلسطینیّة فی سوریة ومحاصرتها وتهجیر سکّانها، وخلق أزمة اللجوء السوریّة بهدف تبریر إقامة مناطق عازلة ومناطق حظر طیران لأنّ الأغبیاء الذین شنّوا هذه الحرب على سوریة اعتقدوا أنّها لن تمتد لأکثر من أیام أو أسابیع، ناهیک عن التغطیة الإعلامیة للمجرمین والقتلة والتغطیة السیاسیّة فی مؤسسات الأمم المتحدة فی نیویورک وجنیف.

لم یکن «داعش» وجبهة النصرة وتنظیمات القاعدة الإرهابیّة الأخرى ظاهرة طبیعیّة فی تاریخنا العربی والإسلامی، لکن استیلاد هذه التنظیمات من رحم الوهابیّة ومصالح «إسرائیل» والولایات المتحدة وحروبها على شعوب المنطقة بهدف تشویه أدیاننا السماویّة وحضارتنا التی اتسمت بالتسامح والانفتاح والتعددیّة، جاء فی إطار مخطط خبیث ومدروس جیّداً لقهرنا من جهة وتمکین «إسرائیل» من بسط هیمنتها علینا إلى ما لا نهایة من جهة أخرى. ولا یمکن إقناعنا أنّ الولایات المتحدة وحلفاءها فی ترکیّا والسعودیّة وغیر هؤلاء لم تکن بعیدة من طلب خدمات «داعش» ضد سوریة والعراق، لا سیما أنّ البعض فی هذه الدول قد بشّر بأنّ المعرکة مع «داعش» ستستمر ثلاثین سنة، وهذا یعنی عملیّاً تمکین «داعش» من تنفیذ کل ما رسموه وأرادوا لها تحقیقه!

إذا کان القدر قد أراد لسوریة أن تقوم بالدفاع عن حقوق شعبها وأمّتها وأن لا تنحنی أمام الأعداء ولا أمام المرتزقة والمتآمرین، فإنّ قدر سوریة وإرادة شعبها وجیشها هما أیضاً أن تتحمّل المسؤولیّة بشرف وأن تقود أمّتها نحو عزّتها وألّا تتخلّى عن واجبها.

إن البلد الذی یصمد على رغم الحرب العدوانیّة والإرهابیّة الکونیّة المعلنة علیه منذ أربع سنوات لا بد أن ینتصر، وسوریة ستنتصر…

 المصدر: صحیفة البناء

 

رایکم
الأکثر قراءة