أفادت وکالة
الدفاع المقدس للأنباء درجت العادة في المؤسسة الرئاسية الأميركية الإعداد المبكر لبعض الوعود والإنجازات لتسجّل في "إرث" المائة يوم الأولى من تسلّم الرئيس مهامه، توّفر قراءة مبكرة على آلية تعاطيه مع التحديات والأزمات المطروحة، داخلياً وخارجياً.
تعود أصول العرف الزمني لعهد نابليون بونابرت دلالة على عدد الأيام التي استغرقتها رحلة عودته من منفاه وتسلم الرئاسة الفرنسية، وفق تقرير أسبوعية تايم، نيسان 2009.
أميركياً، ابتدع الرئيس فرانكلين روزفلت التاريخ "العشوائي وغير الواقعي" عام 1933 خلال فترة "الركود الاقتصادي الكبير" الذي حلّ بالبلاد، بعد مرور 100 يوم على انعقاد دورة الكونغرس بمجلسيه، بين 9 إذار/ مارس – 17 حزيران/ يونيو، وليس لعدد الأيام التي قضاها الرئيس في منصبه. ومنذئذ دخلت المدة "العشوائية" في سردية الحملات الانتخابية الرئاسية كوعد يقطعه المرشح لما ينوي انجازه عند الفوز بالمنصب.
كما درجت عادة الرؤساء المتعاقبين على "تمديد" الحكم الشعبي على الإنجازات مقارنة بالوعود لفترة إضافية، مارسها الرئيس تلو الآخر، بتدشين الوعي الشعبي بمغامرات عسكرية لكسب وده ورضاه: جون كنيدي أصدر أوامره لغزو كوبا في خليج الخنازير بعد 87 يوم على رئاسته، وتفوق الاتحاد السوفياتي على الولايات المتحدة بدوران ناجح لأول إنسان بشري حول الأرض؛ خلفه الرئيس جونسون افتعل أزمة توريد مياه لقاعدة غوانتانامو مع كوبا؛ الرئيس كلينتون تميزت فترته الأولى بالغارة الفاشلة والمجزرة التي نتجت عن هجوم الشرطة الفيدرالية على مقر حركة "الداووديين" الدينية بزعامة ديفيد كوريش في مدينة واكو بولاية تكساس؛ تعثرت ولاية الرئيس جورج بوش الابن الأولى نظراً لانصراف الاهتمام العام ناحية "إعادة فرز الأصوات" في ولاية فلوريدا؛ الرئيس أوباما استقبل ولايته الأولى بعدم الاعتراض على العدوان "الإسرائيلي" على غزة، 2007-2008، والإقرار بأن إنجازاته تستدعي 1000 يوم لتحقيقها.
على الصعيد الداخلي الصرف، يمارس ترامب مهامه الرئاسية بإصدار قرارات رئاسية متتالية، "أوامر تنفيذية" لها مفعول القانون عوضاً عن اللجوء للكونغرس لإقرارها، ويعود ذلك لسببين رئيسيين: الأول، ذاتيته المفرّطه لاتخاذ قرارات نافذة على الفور دون المرور بالسلطة التشريعية؛ والثاني، نزعته وأقرانه الجمهوريين بعدم تحميلهم وزر سياسات يرفضها الناخبون خاصة وأن البلد مقبل على انتخابات نصفية العام المقبل يخضع لها كافة أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ.
أطلق المرشح ترامب وعوداً كبيرة في كافة الاتجاهات، رافعاً سقف التوقعات بعيداً عن الواقع، الأمر الذي اضطره للاقرار قبل أيام بأنه لم يكن "يدرك تعقيدات المنصب الرئاسي".
أما إصدار حكم على رئاسته في هذه الفترة لا يرمي سوى تشكيل مؤشر على هفواته واخفاقاته والتنازلات الهامة التي قدمها للمؤسسة الحاكمة، بإطلاق يد المؤسسة العسكرية في قرارات السياسة الخارجية وتهميش دور ومكانة وزارة الخارجية التقليدي.
على الطرف المقابل، سلّم ترامب زمام السياسة الاقتصادية لحفنة من خمس شخصيات أتوا جميعاً من أكبر صناديق الاستثمار في وول ستريت "غولدمان ساكس": أبرزهم مستشاره للشؤون الاستراتيجية ستيف بانون؛ وزير المالية ستيف منيوشن، ونائبه المقبل جيمس دونافان – المدير التنفيذي بالوكالة للصندوق؛ ورئيس المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض، غاري كاون؛ دينا باول (من أصول مصرية) أيضاً من صندوق غولدمان ساكس.
كأن هيلاري تحكم رغم هزيمتها
التحول الرئيس في سياسات وتوجهات ترامب يمكن إيجازه بالاستدارة نحو أقطاب المؤسسة الحاكمة التي لا ينفك عن نعتها بأقسى العبارات، أبرزها أنها تنخر بالفساد ومهمته "تجفيف مستنقعاته" بعد سلسلة اخفاقات وملاحقات قضائية لفريقه الرئاسي، واستعادة التهديد بتقديمه للمحاكمة.
الرئيس الزئبقي ترامب لم يكن يتوقع منه إنجازات أو توجهات ملموسة، في فترة زمنية وجيزة، بل تخلى بوتيرة ملفتة عن تعهداته الانتخابية الرئيسة، لكنه تحدى الآليات التقليدية للمؤسسة الحاكمة، وسرعان ما أضحى متماهيا معها ليخضع سياساته الخارجية لتوجهات القيادة العسكرية في البنتاغون وأجهزة الاستخبارات. ولم يبتعد كثيرا عن طبيعة خطابه الانتخابي: الإقلاع عن البعد الأيديولوجي والإفراط بالسردية القصصية.
أول إانجازات" الرئيس ترامب كانت شنّه غارة صاروخية على قاعدة عسكرية سورية، قاعدة الشعيرات، رافقها "زلّة لسان" ربما للناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، بأن الأولوية الأميركية لا زالت في "زعزعة استقرار سوريا" وهي الجملة التي أرست حدود السياسة الأميركية نحو سوريا على الرغم من كافة الوعود السابقة بايلاء الأولوية "لمحاربة داعش والإرهاب.. والنأي عن تغيير النظم."
تميّزت وزارة الخارجية في عهد هيلاري كلينتون "بجلب الفوضى والدمار والقتل والبؤس" لكل بقعة تحتل موقعاً هاما في الاستراتيجية الأميركية: ليبيا، سوريا، آفة الربيع العربي الدموي، وموجات الهجرة الجماعية باتجاه أوروبا، وانقلاب الثورات الملونة في حديقة روسيا الخلفية؛ فضلا عن الدمار وترسيخ التبعية في أميركا اللاتينية وأفريقيا. في ظل هذه المعادلة، يعسر على المرء التعرف على فروقات جوهرية بين سياسة ترامب "ووعود" السيدة كلينتون.
سياساته الخارجية أضحت مثيرة للتوترات وموازية أو شبه مطابقة لسياسات أسلافه وتخليه عن لهجة التهدئة والتعايش الدولي: استفزاز الصين واتهامها بالتلاعب بسعر صرف عملتها؛ الانقلاب على سياسة أوباما في "التريث الاستراتيجي" مع كوريا الشمالية؛ التخلي عن وعده بعدم التدخل في سوريا؛ وتدهور العلاقات مع روسيا، عدا عن اعتبار حلف الناتو من الماضي ثم الإشادة به.
أما وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، فحضوره في المشهد السياسي لا يوازي حجم المهام المنوطة به. فيما يخص المسألة الفلسطينية، يتم التداول في واشنطن بأن ملف المفاوضات بأكمله انتقل من أروقة وزارة الخارجية إلى حضن نسيب ترامب، جاريد كوشنر؛ اضافة لملفي الصين والمكسيك.
ترامب، في مجال السياسة الخارجية، مولع بالتميّز عن سلفه الرئيس أوباما والاقلاع عن الالتزامات والمحإذير الأميركية السابقة، لا سيما فيما يخص مسألة المستوطنات و"حل الدولتين."
وشرع في تجسيد معارضته للرئيس أوباما قبل تسلمه مهام منصبه بخطوات عملية: التصريح العلني ضد امتناع إدارة أوباما عن التصويت في مجلس الأمن حول المستوطنات؛ المسارعة في التحدث هاتفيا مع رئيسة تايوان مما اعتبر أمرا غير مسبوق في ركيزة السياسة الأميركية التي تعتبر ان الصين مسألة واحدة؛ الخطاب العلني المداهن لروسيا والكشف عن اتصالات مباشرة اجراها اعضاء فريقه الانتخابي، ومن ثم مستشار الأمن القومي السابق، مايك فلين، مع موسكو.
في الشأن الداخلي، تلقى ترامب وفريقه من الحزب الجمهوري صفعة قاسية لفشل مجلس النواب استصدار قرار يلغي فيه برنامج الرعاية الصحية، أوباما كير، على أيدي قلة من ممثلي الحزب الجمهوري المتشددين. وسعى منذئذ للتريث والإبطاء في إنجاز قرارات تشريعية مؤثرة وكسب تأييد بعض المعارضين من داخل الصف الجمهوري.
كما تلقى ترامب وفريقه سلسلة هزائم في البعد القضائي عقب إقدام عدد من القضاة الاتحاديين تحدي قراراته وتجميد أحدها المتعلق بحظر دخول رعايا دول عربية وإسلامية، وكذلك لتحمل الولايات المتحدة عبء الانفاق على برامج لجوء المهاجرين ورعايتهم.
نظرة دقيقة على أوضاع الإدارة الداخلية لاستخلاص توجهات مستقبلية، آنية أو متوسطة المدى، لا تبشر بالخير للرئيس ترامب. إذ ان فريقه لا تنقصه الخبرة العملياتية فحسب، بل تنخر الصراعات اقطابه المتعددة، مما حدا بترامب الاعتماد المتزايد على افراد عائلته، كريمته وزوجها تحديدا، في إدارة بعض الملفات الحساسة.
عند اضافة عامل الفضائح السياسية التي تلاحق افرادا معينيين في الإدارة، يخرج المرء بصورة قاتمة لما ينتظر الإدارة من توجهات حقيقية. بالمقابل، يلجأ ترامب إلى العدول عن اتخإذ قرارات حاسمة بنفسه والإنصات لأقطاب المؤسسة التقليدية ممثلة بوزير دفاعه، جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي، هيربرت ماكماستر، والتماهي الشديد مع ركائز السياسات الأميركية السابقة وتمسكها بوحدانية القطب العالمي.
بل لم يخجل من التصريح بعد لقائه رئيس جمهورية الصين الشعبية، شي جين بينغ، بأنه تعلم الكثير عن تعقيدات الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية من ضيفه الصيني.
طبيعة ترامب وميله للتهور وسرعة الانفعال لا ينبغي تغييبها عن "التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به." المؤسسة الاعلامية الضخمة أجمعت على توصيف ترامب بالتهور. أما تقييم "الإعلام المزيف"وفق توصيف ترامب للمؤسسة، فقد أوجزته إحدى أهم ركائزه يومية واشنطن بوست بالقول إن "ترامب يحكم بذات الآلية التي انتهجها في حملته الانتخابية: التهور وعدم الثبات على موقف محدد والصراخ العالي".
/انتهی/421