اللقاء الخاصّ الذی أجرته جریدة «برتو» الأُسبوعیّة مع سماحة آیة الله الشیخ محمد تقی مصباح الیزدی(دام ظله) حول سمات شخصیّة قائد الثورة الإمام الخامنئی «دام ظلّه الوارف» 14/10/2010م
1ـ برتو: بالنظر لمعرفتکم بسماحة آیة الله العظمى الإمام الخامنئی والعلاقة الوثیقة التی کانت ولا تزال تربطکم به، نودّ أن تتفضّلوا علینا ببیان بعض ما یتّصل بالأبعاد المختلفة لشخصیّته(دام ظلّه)، لاسیّما الجوانب العلمیّة والمعنویّة منها، التی ربّما تکون قد اختفت تحت شعاع شخصیّته السیاسیّة.
نعمة شخصیّة الإمام الخامنئی (دام ظله)
* جحود النعمة:
آیة الله مصباح: بسم الله الرحمن الرحیم. أنا أعترف بصفتی إنسانا أن أمثالی من الناس مبتلون إلى حد بعید بجحود النعمة. وهذا الاعتراف یُعدّ مصداقاً لآیات قرآنیّة متعدّدة؛ من جملتها قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ﴾[1]؛ فنحن غافلون عن العدید من نعماء الله تعالى ناسون لها، کنعمة وجود الأقرباء، ونعمة الأبوین، ونعمة الأستاذ، ونعمة الأصدقاء والأحبّة، وسائر النعم التی نحن غارقون فیها. بالطبع إنّ لکلّ قاعدة عامّة استثناءات وشواذّ؛ غیر أنّ الطبیعة المادّیة والحیوانیّة للإنسان تقتضی مثل هذا الکفران بالنعمة؛ ذلک أنّ المرء کثیر النسیان، ولعلّ العلّة من وراء عدم شکر الإنسان للنعمة هی ما یتّصف به من حالة النسیان.
* نعمة النظام الإسلامی والولی الفقیه:
فمن النعم العظیمة، التی ـ حسب تقدیری ـ لو أنّ أمثالی وکلّ إیرانیّ عکف لیلَ نهار طیلة سنین مدیدة من عمره على شکرها لم یؤدّ حقّها، هی نعمة توطُّد النظام الإسلامیّ، وحاکمیّة الولیّ الفقیه، وعلى وجه الخصوص وجود شخص کقائد الثورة المعظّم. إذ أنّ عملیّة إرساء الحکومة الإسلامیّة بالشکل الذی یحبّه الله تعالى کانت مطمح جمیع الأنبیاء والأولیاء والصالحین على مرّ التاریخ، ولم یخبرنا التاریخ ـ اللهمّ إلاّ فی فترات خاصّة من الزمن وبقع محدودة من الأرض ـ عن حصول نموذج بارز وواضح لهذه الحکومة کالذی نشهده الیوم. فمن بین الأنبیاء السابقین کانت حکومة نبیّ الله سلیمان (علیه السلام) الذی قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِی وَهَبْ لِی مُلْکًا لّا یَنبَغِی لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِی﴾[2]، وفی آخر الزمان استطاع خاتم النبیّین (صلّى الله علیه وآله) أن یحکم لبضع سنوات فی المدینة، تبعتها حکومة أمیر المؤمنین (صلوات الله وسلامه علیه) ذات العهد القصیر[3] الذی انقضى معظمه فی الحروب الداخلیة؛ وما عدا ذلک فإنّه یصعب العثور، إذا تفحّصنا التاریخ بدقّة، على نظام حکومیّ یکون الحاکم فیه المعصوم أو مَن یتلو المعصوم. فهذه لعمری نعمة عظیمة قد منّ الله بها على مجتمعنا واُمّتنا فی هذا العصر، ألا وهی نعمة هذا النظام الذی غرسه وأسّس له الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) وسقاه ورعاه قائد الثورة الإمام الخامنئی (دام ظلّه).
* أهمیة نعمة النظام الإسلامی:
فلو أنّنا حاولنا حساب ما لهذا النظام الإسلامیّ من المقدار والقیمة، وأین تقع هذه النعمة مقارنة بسائر النعم التی أولاها الله تعالى للبشر، وأی تناسب بینها وبین النعم المادیة والدنیویة الأُخرى، فمن المستبعَد أن نتوصّل إلى تناسب منطقیّ بینهما. فهذه النعمة هی أیضاً فی الحیاة الدنیا؛ لکنّها تشکّل جسراً نحو الآخرة والسعادة الأبدیّة، ومن الصعوبة بمکان أن نتوصّل إلى تناسب بین الاثنین. فسائر النعم مهما بلغت من العظمة فهی تبقى ـ فی مقابل هذه النعمة التی من شأنها أن تَهَب للبشر ما لا نفاد له من السعادة الأبدیّة ـ فی حکم الصفر. من أجل ذلک فإنّ من الضروریّ بمکان، کلّما سنحت الفرصة واُتیح المجال، أن نذکّر الناس بهذه النعمة الإلهیّة الجسیمة کی یدرکوا مقدار ما فی أعناقهم من شکرها. کما وإنّ إحدى فوائد هذا العمل هی أنّ وقوف المرء على عِظم النعمة وخطرها سییسّر علیه کثیرا تحمّل ما یشکوه من ضنک العیش وقسوة الحیاة.
* المصاعب تهون إذا عرفنا عظمة النعمة:
فهذا العالم لا تخلو ظواهره من أشکال النقص والعجز، والقرآن الکریم یقول: ﴿لَقَد خَلَقنَا الإنسَانَ فِی کَبَد﴾[4]؛ أی إنّ حیاة الإنسان ممزوجة بالمعاناة والشدائد؛ لکنّ تحمّل هذه المصاعب سیهون کثیراً إذا لمس المرء ما هو غارق فیه من نعمة عظیمة. فالشخص الذی یملک مقداراً هائلاً من المال ـ ملیار دولار مثلاً ـ فی حسابه المصرفیّ لن یأبه لفقدان دولار واحد، لعلمه بمقدار ما یملک ویقینه بأنّ فقدانه لدولار واحد لن یسبّب له خسارة تُذکر. أمّا ذلک الذی لیس فی حوزته من مال الدنیا سوى ورقة فئة دولار واحد، فإنّه سیصاب بغمّ شدید ویتألّم حتّى إذا بَلِی طرف من أطرافها. من هنا فإنّنا إذا التفتنا وتنبّهنا لعظیم النعمة التی أسبغها الله علینا فی هذا العصر فانه ستهون علینا بعض المحن، التی هی من اللوازم الطبیعیّة لحوادث هذا العالم، وسیشبه هذا الأمر قضیّة فقدان الدولار الواحد لصاحب الثروة الجسیمة حیث یکون تحمّلها علینا سهلاً یسیراً.
* نعمة وجود الإمام الراحل (رحمه الله):
النعمة الأخرى التی ینبغی لنا شکرها هی نعمة وجود شخص کالإمام الراحل (رحمة الله علیه). فخلال المدّة القصیرة التی أدرکنا وجوده فیها اعترف جمیع من یمتلکون صلاحیّة إبداء الرأی فی هذا المجال أنّه ـ على الأقلّ فی القرون القلیلة الماضیة ـ لا توجد فی العالم شخصیّة توازیه فی العظمة. طبعاً تقییم هؤلاء کان یستند إلى المعاییر المادّیة وأغلبهم ما کان یدرک الأهمّیة المعنویّة لوجوده (رحمه الله)؛ فالإنجاز الهائل الذی قام به الإمام الراحل والتحوّل العظیم الذی أوجده فی نفوس الناس إنّما یتلخّص بما أَوصَل إلیه الشباب المسلم من منازل العرفان الراقیة وذُرى المعنویّات العالیة بعدما کانوا علیه من البطالة والتسکّع فی الطرق والأزقّة؛ وعلى الرغم من أنّ مثل هذه الخصوصیّات للإمام لا یمکن تقییمها عبر الحسابات المادّیة، فقد عدّوه أعظم شخصیّات زمانه. ینبغی لنا أن نلتفت أکثر ونطیل النظر إلى هذه الجوانب من شخصیّة الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) لندرک جیّداً ما قد انتُشلنا منه من مهاوی العجز والذلّ والحقارة، وما قد ارتقیناه من ذُرى العزّة والمجد والکرامة تحت لواء قیادته الحکیمة؛ سواء العزّة الدنیویّة فی الأوساط الدولیّة، أو العزّة المعنویّة والسموّ الأخلاقیّ الذی دبّ فی مجتمعنا وصار یسری ـ بشکل أو بآخر ـ إلى سائر المجتمعات.
* ما الذی سیحصل بعد رحیل الإمام؟
الحقیقة أنّه فی زمان حیاة الإمام (رحمة الله علیه) کلّما کانت تراودنی فکرة: ما الذی سیحصل بعد رحیل الإمام؟ ینتابنی الاضطراب وأُحاول أن أصرف هذه الفکرة عن مخیّلتی ولا أعود إلى التفکیر بها بتاتاً. إذ لم یکن یتبادر إلى ذهنی أیّ جواب شافٍ أو خطّة مُقنِعة من شأنها أن تملأ الفراغ الذی سیولّده رحیل الإمام (رحمة الله علیه). فهذه القضیّة تقلقنی شدید القلق إلى درجة أنّنی کنتُ أُحاول عدم التفکیر فیها أساساً. لکنّه عندما تسلّم قائد الثورة المعظّم (دامت برکاته) مقالید القیادة شعرتُ کأنّ ماءً بارداً قد صُبّ على هذه النار الملتهبة. بالطبع أنا أعترف أنّنی فی بادئ الأمر لم أکن أحیط علماً بمهاراته المختلفة؛ فجُلّ ما کنتُ أعرفه أنّه کان متقدّماً على أقرانه؛ أمّا فیما بعد ـ وقد ذکرتُ ذلک مراراً وتکراراً ـ فقد بدى لنا وکأنّ روح الإمام (قدّس سرّه) قد حلّت فی بدنه، حتّى أنّ عین تلک العظمة، وبخصوصیّات ممتازة أیضاً، قد ظهرت فی شخصیّته. فی الحقیقة لا یسعنی أن أقارن کلّ سمات الإمام بسمات شخصیّة قائد الثورة لأقول إنّهما متساویان فی قسم منها، أو إنّ أحدهما یسمو على الآخر فی قسمها الآخر؛ إذ أنّ إصدار حکم من هذا القبیل یحتاج إلى صلاحیة على مستوى عال؛ لکنّنی أعلم على نحو الإجمال أنّ هذا الاختیار کان الأفضل بعد الإمام (رحمه الله) وإنّ قناعتی بذلک تزداد یوماً بعد یوم. فکلّنا نلاحظ مدى ما أودعه الله فی کیان هذا الرجل العظیم من استعدادات وکفاءات وقابلیّات ولا ریب فی أنّ هذه الکفاءات والاستعدادات قد نَمَت أیضاً على مرّ الزمان. بالطبع فإنّه مضافاً إلى ما یتمتّع به هذا الرجل من إخلاص وما قدّمه من تضحیات فإنّ التسدیدات الإلهیّة قد شملته وتشمله أیضاً؛ لکنّه لابدّ من أن تتوفّر فی المرء أرضیّة لظهور الکمالات فیه وعندئذ ینـزل الله تعالى علیه ألطافه.
* نعمة وجود الإمام الخامنئی (دام ظله):
خلاصة الأمر فإنّ شخصیّته (دام ظلّه) تُعدّ ـ بالنسبة لکلّ مسلم، وأخص بالذکر المسلمین الإیرانیین، وعلى وجه التحدید الشیعة منهم ـ نعمة هی على جانب من العظمة بحیث لا یمکن قیاسها بباقی النعم؛ بمعنى أنّنا لو وضعنا کلّ الآلاء المادّیة فی کفّة میزان وهذه النعمة لوحدها فی الکفّة الأُخرى، فإنّ قیمة وفائدة وجود هذا الرجل بعنوان کونه نعمة لکلّ فرد منّا، ولیس للمجتمع ککلّ، سترجح على مجموع النعم المادّیة التی منّ الله بها على کلّ فرد من أفراد مجتمعنا؛ بطبیعة الحال هذا مع الحفاظ على مکانة نعمة معرفة الله عزّ وجلّ وولایة أهل البیت(علیهم السلام). وبناءً علیه فإنّنا لو حاولنا حساب قیمة وجوده لکلّ فرد منّا بِلُغة الأعداد والأرقام لما کان ذلک ممکناً.
* بین الإمام الخامنئی وبقیة القادة:
التصدیق بهذا الادّعاء لیس صعباً للغایة. فإنّنا لو تصفّحنا حیاته الشخصیّة وطالعنا ـ على الأقلّ ـ عن فترتها الممتدّة من زمان تولّیه لمنصب رئاسة الجمهوریّة إلى الآن، أیّ سنوات تصدّیه للمناصب الرسمیّة، واستعنّا بالمقارنة بینه وبین سائر رؤساء العالم وزعمائه، لوجدنا بوناً شاسعاً بینه وبینهم على صعید إمکانیّة إدارة شؤون البلاد، وسعة الصدر، والشمولیّة، والتقوى، والرأفة، والإخلاص، والشفقة، وغیرها المئات من الأصعدة. فمن ناحیة النـزاهة الأخلاقیّة ـ على سبیل المثال ـ لو أنّک اطّلعت على سیرة أغلب رؤساء العالم فی عصرنا الحاضر لوجدتَ أنّ سجلاّتهم ملیئة بنقاط الضعف، والفساد، والاختلاس، وأکل الربا، وأمثال ذلک؛ لکنّه لا یمکنک أن تعثر، ولو على نقطة سوداء واحدة، فی حیاة قائد الثورة المعظّم على مدى تلک الثلاثین عاماً من حیاته السیاسیّة؛ فکیف یمکننا تقییم هذا الاختلاف والتباین؟ وأمّا القیاس ببعض الشخصیّات الداخلیّة فإنّنا نضعه جانباً، لئلاّ تقع مصداقاً للقول: «الدهر أنـزلنی، ثمّ أنـزلنی»!
فلتقارِن هذه الشخصیّة الجلیلة القدر برؤساء وزعماء الدول الأُخرى کی تنظر أیّ قائد وهبَنا الله. فکم من حقوق تُضیّع فی البلدان الأُخرى من أجل الوصول إلى السلطة، وکم من أموال تُهدر، وکم من دعایات سوء تستخدم، ثمّ بعد جلوسهم على کراسیّهم کیف استغلوا مناصبهم أبشع استغلال؛ فلتنظر أیّ قائد مَنّ الله تعالى علینا به، وأیّ محبوبیّة حباه بحیث إنّه لم ینفق حتّى ریالاً واحداً لا على رئاسته للجمهوریّة، ولا على عضویّته للمجلس، ولا على قیادته للأمّة؛ بل إنّ جمیع تلک المناصب تقریباً قد فُرضت علیه فرضاً، وهو لم یقبلها إلاّ من باب أداء الواجب والتکلیف.
یتّضح ممّا سبق إلى أیّ مدى أنا کافر بالنعمة، والأکثر کفراناً منّی هم الذین یعلمون بکلّ هذه الأُمور ولیس أنّهم لا یقرّون بکفرانهم للنعمة فحسب، بل إنّ لدیهم ادّعاءات عریضة، ویتفوّهون أحیاناً بکلام بعید عن الصواب أیضاً! ولا ندری أیّ جواب سیجیب هؤلاء ربّهم، هذا إذا کانوا یعتقدون بالله والقیامة أصلاً.
من أبعاد شخصیّة الإمام الخامنئی(دام ظله) * الشمولیة والعمق:
أمّا أبعاد شخصیّة الإمام الخامنئی فهی ـ حقیقةً ـ بسعة تلک الروح العظیمة التی یمتلکها إنسان مُخلَص ورع. وإنّ الجمیع مطّلعون على هذا الأمر ولیس هو بحاجة إلى تبیین وتوضیح. فهو ما جالس جماعة وما تکلّم فی موضوع إلاّ وکان لدیه کلام ذو قیمة فی هذا المجال وذاک التخصّص. لیس هذا فحسب، بل قد یفوق أحیاناً المتخصّصین فیه؛ اللهمّ إلاّ فی بعض المجالات الفنّیة والتخصّصیة البحتة کالطبّ والفیزیاء ونظائرهما ممّا لا یُنتظر من عالم دین أن یلمّ بها. لکنّه فی المسائل الاجتماعیّة، والمعلومات العامّة المطروحة على الصعید الاجتماعیّ، والأدب، والشعر، وعلم الموسیقى ـ وأقصد بالموسیقى القدرة على التمییز بین صحیحها وخطئها، وحقّها وباطلها ـ ، والریاضة، والخطّ، والفنّ، وأمور من هذا القبیل فهو فی الصدارة.
* الإدارة:
أمّا فی شؤون إدارة البلاد فإنّ نبوغه بارز جدّاً؛ هذا على الرغم من أنّ الأبعاد الأساسیّة لشخصیّته والمرتبطة بقیادته وولایته لا تحظى ـ مع بالغ الأسف ـ باهتمام کبیر.
* فقاهته:
أوّل خصیصة من هذا القبیل هی فقاهته. فالذین یُشهَد لهم فی عالم الفقاهة بالإنصاف والتقوى یشهدون بأنّ قائد الثورة المعظّم لیس دون أقرانه من الناحیة الفقهیّة فحسب، بل لقد ثبت لدینا أنّ سماحته یتفوّق علیهم فی بعض الموارد.
* علم الرجال:
فمن العلوم المهمّة فی مجال الفقاهة والتی لا یتوفر فیها کثیر من المحقّقین البارزین هو علم الرجال. فإذا لم یکن فی عالم التشیّع غیر ثلاثة من الضالعین فی علم الرجال فهو أحدهم لا محالة. وللأسف فإنّ سماحته غیر مشهور بالحدّ المطلوب على مستوى العدید من الفروع العلمیّة الأُخرى.
* قوة الذاکرة:
أمّا فیما یتّصل بالقضایا المرتبطة بالذاکرة؛ مثل سیرة الأشخاص، وقضایا التاریخ، والتحلیلات التاریخیّة، وما إلى ذلک فهو فی حدّ الإعجاز.
* رأفته، وعطفه، وشفقته:
ومن خصائصه الأخرى أیضاً رأفته، وعطفه، وشفقته تجاه أفراد الشعب. إذ یلاحظ أحیاناً فی سلوکه مع بعض عوائل الشهداء أو الأفراد ما ینمّ عن عاطفة موغلة فی العمق واللطف.
* تقواه وزهده:
ومن جانب آخر فإنّ تقواه وزهده اللذین یُعدّان من جملة النماذج التاریخیة الخالدة، بل وبمثابة الأُسطورة لمَن لم یشاهدوا مثل هذه الصور؛ فمن العجیب أنّ شخصاً مثله فی هذا المنصب الحساس وبکلّ هذه الإمکانیّات المتوفّرة لدیه یعیش فی هذا المستوى من الزهد وبساطة العیش.
کلّ تلک الخصوصیّات، مضافاً إلى عشرات غیرها یشقّ على المرء ـ حقیقةً ـ بیانها وإحصاؤها جمیعاً، هی ممّا لو توفّرت واحدة منها فی امرئ فستجعل منه شخصیّة اجتماعیّة ممیّزة ومرموقة إلى أبعد الحدود. فإذا کان الله تعالى قد جمع کلّ تلک الامتیازات فی شخص واحد وجعله قائداً لهذه الأمّة فکم یتعیّن علینا أن نقدر هذه النعمة؟ فإذا مُسَّت منه یوماً ـ لا قدّر الله ـ ولو شعرة واحدة؛ فسنعلم حینها أیّ جوهرة ثمینة نادرةٍ بین أیدینا یستحیل العثور على نظیر لها.
* بین القائد وأقرانه:
أولئک الذین یرون القائد عن کثب ویستطیعون مقارنته بأقرانه یدرکون أنّ الاختلاف هو کالاختلاف بین السماء والأرض؛ فمَن هم من أمثالی لا یعلمون سوى هذا المقدار وهو أنّه أفضل من الآخرین بکثیر؛ لکن إلى أیّ مدى هو أفضل؟ لا نستطیع تقییم ذلک. قد تبرز أحیاناً عیّنات من هذا الاختلاف وهذه الأفضلیّة، وعندما یمعن الإنسان النظر فی هذه الأُمور یلاحظ مدى الاختلاف الکبیر.
* عبقریته:
فمن أبرز معالم عبقریّته ونموذجیّته هو ما ظهر فی أحداث الفتنة الأخیرة؛ ومع أنّنا إلى الآن لم نُدرک أبعاد وعمق هذه الفتنة کما ینبغی، وأنّ المقدار الذی أدرکناه منها لا نستطیع بیانه، وإذا بینّاه فما زال الکثیر من الناس لا یصدّقونه، لکنّ سماحته تعامل مع جمیع تلک المشاکل والمعضلات وأوجد لها الحلول بتدبیر هو فی منتهى الحکمة بل ویقترب ـ حقیقةً ـ من تدبیر المعصوم (علیه السلام)، وبسعة صدر تبلغ حدّ الإعجاز یصعب العثور على نظیر لها عند غیر المعصوم (علیه السلام). فإنّ أناته وصبره وسعة صدره فی بعض المواقف وتجاه بعض الأشخاص هی ممّا یستعصی على الوصف.
* الإمام الخامنئی عند شخصیّات العالم:
لقد أسبغ الباری عزّ وجلّ کلّ تلک النعم فی آن واحد على شخص واحد ووضع هذا الشخص بین یدی الشعب الإیرانیّ. نحن ننصح أُولئک الغیر المطّلعین على هذه القضایا أن یطالعوا أقوال شخصیّات العالم فی حقّه. فلقد أبدى رؤساء بعض دول العالم إعجابهم بشخصیّته فقالوا: ما دام للشعب الإیرانیّ قائد کهذا، فإنّه لن یذوق طعم الهزیمة أبداً؛ هذا الکلام قاله «بوتین»[5] وهو واحد من أبرز رجالات السیاسة فی عصرنا هذا. فإبداء رأی کهذا من شخص مثل بوتین فی حقّ شخصیّة کهذه لیدعوا إلى العجب الشدید. أنّى لنا أن نعثر على مثل هذه المواقف وهو أن یبادر رئیس جمهوریّة بلدٍ ما إلى إصدار مثل هذا الحکم على قائد بلد آخر؟ فهو من شدّة انبهاره وإحساسه بالضآلة أمام هذه الشخصیّة لم یستطع إلاّ أن یبوح بمشاعره؛ فأیّ دافع غیر هذا یمکن أن یدفع أمثال هؤلاء إلى إظهار أحاسیسهم؟ خصوصاً وإنّها قد تکون ضدّ مصالحهم أحیاناً.
على أیّ حال یتحتّم علینا أن نعرف الواجب الذی فی أعناقنا لشکر هذه النعمة الجسیمة، وأن نبیّنها للناس بما تتیحه لنا إمکاناتنا الفکریّة والعلمیّة کی یفهموا أیّ نعمة أسبغها الله علیهم، وعندها سیتضاعف الدافع إلى شکرها، ویقدرونها حق قدرها، ویهون علیهم تحمّل الصعاب والمحن مع وجود نعمة نفیسة کهذه.
2ـ برتو: أشرتم إلى حادثة فتنة عام 2009م والتدبیر الحکیم لسماحة الإمام الخامنئی فی السیطرة علیها وإخمادها. منذ ذلک الحین وإلى الآن؛ أی منذ بدایة أحداث الفتنة، ولاسیّما بعد التاسع من شهر دی (الثلاثین من کانون الأوّل، 2009) ـ حیث کانت خاتمة الفتنة تقریباً وما سطّره الذین کانوا قد خُدعوا فی أحداث الفتنة فی بادئ الأمر ثمّ اهتدوا بواسطة حکمة وتدبیر وصبر قائد الثورة المعظّم إلى سواء السبیل، ما سطّره هؤلاء من ملحمة فی ذلک الیوم العظیم ـ أقول لاسیّما بعد هذه المرحلة بدأت وسائل إعلام العدوّ المکتوبة والمسموعة والمرئیّة بشنّ هجمة شعواء على شخص الإمام الخامنئی، کان قد سبقها هجوم على أصل ولایة الفقیه، فالیوم صار التجاسر یطال شخص قائد الثورة متّخذاً طابع کتابة الرسائل أو أسالیب أُخرى عدیدة. برأیکم ما هو هدف العدوّ من هذه العملیّة فی هذا الوقت بالذات، وما هو واجب الشعب بشکل عامّ، والخواصّ بشکل خاصّ، لاسیّما الحوزات العلمیّة، فی مواجهة هذه الهجمة الشرسة التی تُصنّف کهجوم استراتیجیّ؟
* هجوم الأعداء على الإمام الخامنئی:
آیة الله مصباح: یبدو لی أنّ هجوم العدوّ وتصعیده فی هذا المضمار أمر طبیعیّ تماماً. فکلّما برزت مکانة قائد الثورة المعظّم أکثر، وزادت محبوبیّته بین الجماهیر، وتجلّى تأثیره فی صیاغة مصیر البلاد ودوام النظام الإسلامیّ، یتضاعف حنق الأعداء وقنوطهم ممّا یدفعهم للجوء إلى آخر ما فی جعبتهم من خطط ومساعی یائسة ومتخبّطة. وبناءً على ذلک لیس من العجب أن ترکَّز حملاتهم الإعلامیّة على شخص سماحته دام ظلّه.
* واجبنا تجاه هجمات الأعداء على الإمام الخامنئی:
أمّا ما هو واجبنا تجاه هذه الهجمات الشرسة، فالجواب الإجمالیّ على هذا السؤال واضح، وهو أنّ علینا أن نبذل کلّ ما فی وسعنا فی صدّ هذه الهجمات وأن لا ندعهم یَجْنُون ولو الیسیر من ثمار مؤامراتهم.
لکن کما تعلم فإنّ نشاطات شیاطین الإنس والجنّ لا تکون دائماً بصورة التحایل وعن طریق إغماد السیوف بوجه الخصم؛ فعندما یُضیَّق الخناق علیهم ویصیرون قاب قوسین أو أدنى من الاحتضار والموت فإنّ آخر خدعة یستخدمونها لمواجهة عدوّهم هی إشهار السلاح علناً فی وجهه؛ فهذه آخر خطوة یمکنهم اتّخاذها. لکن قبل أن تصل بهم الأُمور إلى هذه المرحلة فإنّهم یحاولون، بأنواع الدسائس والمکائد، أن یُضلّوا أکبر عدد من الناس، الأمر الذی بدأ منذ الیوم الأوّل لانتصار الثورة؛ لکنّه وصل الیوم إلى ذروته بالنسبة لشخص قائد الثورة. ولیس فقط أعداء الثورة فی الخارج هم من یفعل ذلک، إذ أنّ عملاءهم فی الداخل یمدّون لهم ید العون أیضاً. بل إنّ أعداء الخارج غالباً ما ینفّذون خططهم فی الداخل على ید ضعاف النفوس الأذلاّء من عملاء الداخل.
* منبع العداوات:
بالطبع من أجل معرفة وفهم المنبع الذی تستمدّ المنافسات والعداوات الشخصیّة منه حیاتها لابدّ لنا من الولوج فی تحلیلات هی من مختصّات علم النفس؛ لکنّه بالإفادة من النصوص القرآنیّة والقصص التی ذکرها فی هذا الباب للفت أنظارنا إلى أمثال هذه القضایا فإنّ ما یسترعی الانتباه من بینها هو عامل «الحسد». فأوّل جریمة وقعت بین بنی البشر على وجه الأرض کان الحسد هو الحافز من ورائها؛ وذلک فی قوله: ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ یُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّک﴾[6].
فرُبّ قائل یقول: لماذا کلّ هذه المحبوبیّة فی قلوب الناس لشخص؟ والحال أنّ هناک آخرین ممّن هم أکبر منه سنّاً وأطول باعاً فی میادین النـزال؛ لماذا لم یحْظَ هؤلاء بالعزّة بین الناس على رغم مساعیهم لنیل الشرف والجاه عندهم؟ وفی المقابل فإنّ قائد الثورة المعظّم لم یحرّک ساکناً للوصول إلى هذه المکانة. فهذه المسألة، وهی أنّهم بذلوا کلّ تلک الجهود، والأموال، وفکّروا، وخطّطوا من دون أن یصل أیّ منهم إلى مراده، تعذّبهم کثیراً؛ لکن الله قد أودع فی قلوب الناس کلّ تلک المحبوبیّة والمکانة لسماحة قائد الثورة من دون أن یخطو هو فی هذا السبیل حتّى خطوة واحدة. نحن غافلون عن أثر هذه المسائل فی إثارة الخلاف وإشعال الفتن. فمعظم هذه المعارضات والاتّهامات والتفتیش عن العیوب واختلاق الذرائع إنّما تنبع من هذه العوامل النفسیّة. وعندما تکون لدى البعض مثل هذه الأرضیّات الخصبة للمخالفة سینبری الأجانب من فورهم لاستغلالها. فلیس من الضروریّ أن یقوم الأعداء بتنشئة أشخاص على المعارضة والمخالفة؛ بل إنّهم یفتّشون عن أُولئک المبتلین بآفات نفسیّة؛ کالشعور بالحقارة، والحسد، والوصولیّة لیهتموا بهم ویوفّروا لهم الإمکانات اللازمة لإشعال فتیل فتنة من هذا القبیل.
فلو قمنا بتحلیل عوامل الفتنة الأخیرة وتقییم أسباب تأجّجها لخرجنا بنتیجة مفادها أنّ الخروج من هذه الفتنة والنجاة من المصیدة التی کانت مُعدّة یرتقی حقیقةً إلى مستوى الإعجاز. فالتمهید لإثارة هذه الفتنة کان یجری منذ أکثر من ثلاثین عاماً، على أیدی أعداء الخارج وبعض القذرین من ضعفاء النفوس فی الداخل مجنّدین لذلک کلّ طاقاتهم وموقنین جمیعاً بأنّها ستکون الضربة القاصمة والمهلکة. لکنّکم شاهدتم بأمّ أعینکم أنّ تلک الأحداث لیس أنّها لم تلحق ضرراً یُذکر فحسب، بل إنّها زادت من شأن سماحته رفعة وفی مکانته عظمة. أیّ مصطلح یمکننا أن نطلقه على هذا الأمر سوى الإعجاز، والألطاف الإلهیّة، والتأییدات الربّانیة؟ بل وما الذی یسعنا فعله سوى تعفیر جباهنا بالتراب ساجدین فی حضرة العلیّ القدیر شاکرین له جزیل آلائه، علّنا نوفّق إلى أداء شکر هذه النعمة.
الواجب فی هذه الظروف:
3ـ برتو: ما هو واجب المسؤولین، والخواصّ، وأفراد الشعب فی مثل هذه الظروف؟
آیة الله مصباح: من المؤسف أنّ بعض الآفات والعیوب لا تستفحل إلاّ فی الخواصّ من الناس، ومهما اُسند لأمثال هؤلاء من الواجبات وأوکل إلیهم من المهمات أشاحوا عنها بوجوههم وأصمّوا عنها أسماعهم، إذ أنّ لهم دوافعهم الشخصیّة الخاصّة. أکثر ما یتعیّن علینا نحن فعله وما یشکّل تکلیفاً شرعیّاً بالنسبة لنا هو تنبیه وإنذار الآخرین ممّن هم عرضة لانطلاء الخدعة علیهم. فلیس فی أیدینا فعل شیء لمن یحمل فی داخله دافع المجابهة والعناد، کما ولا جدوى المحاولة مع أمثال هؤلاء: ﴿سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا یُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم﴾[7]. فهؤلاء شرذمة من الناس معدودون على الأصابع یحاولون إغواء السواد الأعظم من الناس وخداعهم.
فی میدان صراع کهذا لابدّ أن یترکّز نشاطنا وأن نبذل ما بوسعنا للحیلولة دون تأثیر مخطّطات هؤلاء على الأکثریّة من أفراد الشعب. ولن یتسنّى لنا القیام بذلک إلاّ إذا لم تشُب قلوبنا المآرِب، ولم نعمل فی سبیل مصالحنا الخاصّة، ولم نلهث وراء الکراسی والمناصب، ویکون سعینا خالصاً لأداء شکر هذه النعمة والواجب الذی فی أعناقنا من أجل صیانة منجزات هذه الثورة؛ کی لا نُوقَف للسؤال غداً أمام الله سبحانه وتعالى. أمّا إذا اتّخذنا هذه القضیّة مجرّد ذریعة، ولم نتحدّث إلاّ بما یحبّبنا فی قلوب الجماهیر ویجذبهم نحونا لیدلوا لنا بأصواتهم غداً فی الانتخابات، أو اجتهدنا للوصول إلى منصب معیّن، فلنعلم أنّ طریقنا منحرف منذ البدایة، وأنّ الوسیلة التی نتّخذها فاسدة ولا یمکن إحقاق حقّ بوسیلة فاسدة. فالقادرون على النهوض بهذه المهمّة هم أُولئک الذین لا یطأون موطئاً إلى عن إخلاص، ومن أجل أداء الواجب، وفی سبیل خدمة الإسلام، والمحافظة على قیمه؛ فلا تهدید یخیفهم، ولا تطمیع یثنی عزائمهم، وهم یعملون فی کلّ زمان بما یملیه علیهم واجبهم وتکلیفهم.
أهالی قم واستقبال القائد:
4ـ بوتو: نحن على أبواب قدوم قائد الثورة المعظّم إلى محافظة قمّ المقدّسة. برأیکم ما هو واجب أهالی قم، والحوزات العلمیّة، وطلبة العلوم الدینیّة، والفضلاء تجاه هذه الزیارة واستقبال هذه الشخصیّة؟
آیة الله مصباح: إنّ الناس یکنّون لقائد الثورة المعظّم من المحبّة والاحترام ما یغنیهم عن النصیحة والدفع باتّجاه تنظیم الاستقبال الظاهریّ والتجمّعات الحاشدة. ونحن بدورنا، بعنوان کوننا خلیّة صغیرة فی هذا الجسد العظیم لحشود المستقبلین، علینا أن نشارک فی هذا الاستقبال العظیم لننال الأجر والثواب.
المشارکة فی استقبال القائد:
5ـ برتو: هل ستشارکون أنتم فی مراسم الاستقبال؟
آیة الله مصباح: نعم، إذا شاء الله تعالى وحظینا بتوفیق المشارکة.
* واجبنا تجاه الشعب:
لکن بشکل عامّ ما یُتوقَّع منّا أکثر تجاه النعمة العظیمة لوجود هذا القائد هو أن نوقظ الناس بألسنتنا، وبأقلامنا، وبسلوکنا وأن نفهمهم أنّ هذه النعمة غیر قابلة للقیاس بأیّ نعمة اُخرى؛ کما أنّ شکر هذه النعمة ثقیل للغایة، وإذا أدرک المرء حقیقةً ما لهذه النعمة من النفاسة والقیمة فسوف ینتابه القلق الشدید خشیة أن ینقص حظّه ویقلّ نصیبه منها؛ وعندها سیبذل غایة وسعه وجهده فی الإفادة من هذه النعمة.
أمّا ما یقلقنی أکثر فهو أن نقصّر نحن فی أدائنا لواجب توعیة الجماهیر وتنبیههم إلى مسؤولیّاتهم تجاه هذه النعمة. لکنّ أفراد الشعب أثبتوا بجدارة أنّهم کلّما شعروا بالواجب یحتّم علیهم القیام بأمر ما، فإنّهم لا یتوانون عن السیر فی هذا الطریق، بل والثبات إلى حدّ بذل النفس فی سبیله.
* الشکر على نعمة وجود هذا الشعب:
ففی الوقت الذی یتعیّن علینا أن نقّدر نعمة وجود هذا القائد الفذّ حقّ قدرها ونشکر الله علیها، لابدّ لنا أنّ نقّدر وجود مثل هذا الشعب حقّ قدره ونشکر المولى القدیر على أنّنا نعیش بین ظهرانی أُناس یمتازون إلى هذه الدرجة بعرفان الجمیل، والنضج الاجتماعیّ، والوعی والفطنة، والمناعة ضدّ الحیل والمکائد، بل والتقدّم على الخواصّ فی مواطن کثیرة، وفهم ما عجز المختصّون عن إدراکه من الحقائق بعقولهم البسیطة. هذه الخصائص لعمری هی من عظیم الآلاء والنعماء التی وهبها الله لشعبنا، وإنّ من واجبنا أن نشکر هذه النعمة أیضاً. إنّ ما ینبغی أن یثیر فی نفوسنا القلق هو أن نقصّر نحن فی أدائنا لتکلیفنا الشرعیّ.
نسأل المولى العلیّ القدیر أن یطیل فی عمر قائدنا العزیز، ویزید فی توفیقاته، ویضاعف من برکات وجوده، وأن یوفّقنا لتقدیر کلّ هذه النعم حقّ قدرها، لاسیّما نعمة وجود ولیّ أمرنا العزیز، والتوفیق لتقدیم الخدمات التی تحظى بقبول الباری سبحانه وأولیائه؛ إن شاء الله.
6ـ برتو: سؤال أخیر: عند مطالعتنا لکتاب «صحیفة النور» [الذی یجمع کلمات وخطابات الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه)] نشاهد أنّ سماحته یؤکّد تأکیداً مبرماً على مسألة «الثقافة»، فقد تکرّرت هذه الکلمة فی هذا الکتاب 480 مرّة، هذا بالإضافة إلى تأکیده على تعابیر أخرى. فأحد توجیهات سماحته کان کما یلی: «لو بلغ بلدنا الإسلامیّ الذروة من الناحیة السیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة، ولم یتقدّم خطوة على الصعید الثقافیّ، فلن یکون ذلک إلاّ عبثاً فی عبث»، فهذا نصّ عبارته، وقد کان سماحته دائم التأکید على مسألة الثقافة، وقد شخّص المصداق لها أیضاً، ألا وهو: الإسلام الأصیل. وقد حمل الإمام الخامنئی رایة الإمام الراحل هذه فی التأکید على قضیّة الثقافة خلال الإحدى والعشرین سنة من عمر قیادته، وقد حدّد هو الآخر «الإسلام المحمّدی الأصیل» کترجمة لکلمة الثقافة المنشودة. ونحن قلّما نجد من یبدی کلّ هذه الحساسیّة تجاه قضیّة الثقافة.
وقد أکّد سماحتکم أیضاً فی کلمتکم الأخیرة فی اجتماع مجلس الخبراء على مسألة «الثقافة» وواجب العلماء ورجال الدین فی هذا العصر. کما وشدّد قائد الثورة (الإمام الخامنئی) أیضاً فی کلمته مع الخبراء على هذا الموضوع وعلى تکلیف العلماء والحوزات العلمیّة فی عصرنا الحالیّ بالالتفات إلى التقدّم التقنیّ الذی یشهده العالم. وممّا لا شکّ فیه أنّ التکلیف الأساس فی هذا المجال یقع على عاتق علماء الدین والحوزات العلمیّة، ولعلّ من الأبعاد المهمّة لزیارة قائد الثورة لقمّ المقدّسة هی الجانب الثقافیّ وواجب علماء الدین فی هذا الخصوص. ما هو، فی نظر سماحتکم، التکلیف الملقى على عواتق علماء الدین فی هذا المضمار؟ وما هی أسباب هذه الغفلة الشدیدة عن الجانب الثقافیّ بعد مضیّ 31 عاماً من عمر الثورة ومع کلّ هذه التأکیدات من قبل قائد الثورة المعظّم والإمام الراحل (رحمه الله)، فی الوقت الذی یشهد العالم فیه هذا التطوّر التقنیّ السریع، والاستغلال الشدید للأعداء لهذه التقنیّة فی الإدلاء بدلوهم وإلقاء شبهاتهم؟ أحقّاً لیس هناک من سبیل لتنفیذ مطالب سماحة قائد الثورة والإمام الراحل على أرض الواقع؟
آیة الله مصباح: إنّها لقضیّة معقّدة وأنا أصغر من أن أستطیع تقدیم خطّة عمل فی هذا المجال، أو أن أخطو خطوة على طریق حلّ هذه المشکلة. لکن یبدو لی أنّه ینبغی القیام بعدّة خطوات على هذا الصعید:
أوّلاً لابدّ أن نعلم أنّ القیام بهذه المهمّة على النحو المطلوب والمقبول لیست هی وظیفة مؤسّسة خاصّة، أو جهة معیّنة، أو شریحة من المجتمع بعینها؛ فلهذا العمل أبعاد مختلفة تُقسّم بین الحکومة والشعب؛ کما أنّ واجبات الشعب تتشعّب إلى شُعب متعدّدة أیضاً. بالطبع القسم الأعظم من هذه الواجبات یتمثّل فی تقدیم المادّة الثقافیّة الصحیحة، وهذه وظیفة علماء الدین، إلاّ أنّه لیس بمقدور علماء الدین القیام بذلک بمفردهم؛ إذ صحیح أنّ تقدیم مثل هذه المادّة ـ کما أکّد قائد الثورة المعظم ـ هو من وظیفة علماء الدین، لکنّ تمهید الأرضیّة لذلک فهو یقع على مؤسّسات الدولة.
وبناء علیه فإنّ إیصال هذه القضیّة إلى نهایة المطاف لیس بالأمر السهل؛ فهو عمل من شأنه أن یُنـزل جمیع مؤسّسات النظام الإسلامیّ إلى وسط المیدان، والحقّ هو هذا. والسبب هو أنّ الأساس الذی ارتکزت علیه هذه الثورة هو الإسلام، والإسلام لا یعدو کونه مسألة ثقافیّة؛ أی هو مجموعة من المعتقدات والقیم. فلیس من العجب أن تجرّ قضیّة کهذه کلّ أجهزة النظام إلى اقتحام میدان عمل مشترک. فالهدف الأساسیّ هو هذا أصلاً؛ ولا أقصد هدفنا وهدف الثوریّین فحسب، بل هو الهدف الأساسیّ لجمیع الأنبیاء.
أمّا السبب فی عدم تقدّم هذا العمل فله علل شتّى؛ وبصرف النظر عن السبب العامّ والأساسیّ، ألا وهو عرقلة الشیطان الذی أقسم على الوقوف فی وجه کلّ تقدّم وازدهار لبنی البشر، سواء بنفسه أو بمعونة أعوانه وأولیائه، أقول بصرف النظر عن کلّ ذلک فهناک عوامل أخرى تعیق تقدّم هذا العمل. فلابدّ من تشخیص هذه العوامل وأن یجتهد الجمیع، کلٌّ بحسب وسعه وطاقته، فی تذلیل الموانع وتدعیم عوامل النموّ والازدهار الثقافیّ.
وهنا أطرح أحد هذه الأمور التی تتقدّم على باقی القضایا من حیث البحث المنطقیّ. أساساً إنّ مدلول مصطلح «الثقافة» والمراد من «العمل الثقافیّ» لیس واضحاً للکثیرین. کما تعلمون فإنّه قد أُعدّت برامج ثقافیّة فی مختلف أنحاء البلاد وفی مؤسّساتها ووزاراتها المختلفة، وقد رُصدت میزانیّات لنشاطات معیّنة کالموسیقى، والریاضة، والسینما، والمسرح، وما إلى ذلک. لکن یا ترى هل هذا هو ما نرمی إلیه من العمل الثقافیّ؟ فإذا سألت: لماذا لا تقومون بنشاطات ثقافیّة؟ قیل لک: هذه هی النشاطات الثقافیّة؛ أفیکون العمل الثقافیّ غیر هذا؟ أنا أقولها بصراحة إنّ هذه الأمور یتمّ تبنّیها کذریعة فی الکثیر من المواطن؛ بمعنى أنّهم لا یریدون أصلاً القیام بالعمل الأساسیّ؛ فتراهم یطلقون عنوان «الثقافیّ» على بعض الأمور، ویسعون جدّیاً فی تنفیذها لیخدعوا الناس فی سبیل تمریر أغراضهم ومخطّطاتهم وتنفیذها على الأرض. فهذا الضعف موجود فی بعض أفراد الشعب وعند بعض المسؤولین.
القضیة الثانیّة هی أنّ أولئک الذین یرغبون فعلاً فی إشاعة الثقافة الصحیحة والحریصین على هذا الأمر تجدهم یهابون عظمة هذا العمل وثقل مسؤولیّته؛ ذلک أنّ ثقل هذا الأمر إنّما یُقاس بثقل الثورة الإسلامیّة نفسها. فالثورة التی أسقطت نظام الشاه کانت ثورة سیاسیّة، لکنّ هذه الثورة هی ثورة ثقافیّة؛ بل هی أثقل وأعمق وأخطر من الثورة السیاسیّة فی بعض جهاتها. فإنْ خطر ببال بعض مسؤولی البلاد التصدّی لهذا الأمر، فسیتبادر إلى ذهنه السؤال التالی: أنّى لی أن أنهض بأمر نهض به شعب بقیادة شخص کالإمام الراحل مع کلّ تلک التضحیات والشعارات والحماس والمشاعر؟! إنّه حقّاً لعمل عظیم، ومن الطبیعیّ أن یهاب عظمته کلّ امرئ ویخلی کاهله من مسؤولیّة النهوض به.
کما أنّ هناک من الأشخاص ممّن فی یده ـ بشکل أو بآخر ـ فعل شیء فی هذا المجال؛ لکنّه یرى أنّه بإنجازه لهذا العمل سیفقد بعض مقرّبیه أو ینقص من مقدار أصواتهم له فی الانتخابات. فلمّا کانت نتائج هذه الأعمال طویلة الأمد، وغیر ظاهرة للعیان بما یکفی، ولن تشکّل حافزاً للناس للتصویت لمن یقوم بها، فهم یحدّثون أنفسهم: لماذا نضیّع أوقاتنا بهذه الأعمال؟ فلنرکّز جهودنا على الأعمال التی تُلفت أنظار الجماهیر، کی نحظى بالمزید من أصواتهم فی الانتخابات. فلماذا نهدر وقتنا فیما لیس فیه هذه الفائدة.
ومن ناحیة أخرى فإنّ النـزعات الحیوانیّة عند بعض الأشخاص تتعارض مع ازدهار الثقافة الإسلامیّة، فأمثال هؤلاء یعلمون أنّ تطوّر الثقافة الإسلامیّة یحول دون تمتّعهم بشهواتهم وملذّاتهم، بل ویجرّ علیهم الاتّهامات من قبل بعض الدول بالرجعیّة والتخلّف. فهؤلاء یحدّثون أنفسهم: لماذا نسعى لخلق المشاکل لأنفسنا؟ ولهذا السبب فعندما یتوقّع الناس إنجاز عمل ثقافیّ یطرحون المسرح والسینما وأمثالها على أنّها أعمال ثقافیّة.
أمّا البعض الآخر فیقول: إنّ هذا العمل هو مسؤولیّة علماء الدین، ولابدّ لهم أن یبذلوا جهوداً على هذا الصعید، ونحن على استعداد لأن نمدّ لهم ید العون.
أمّا فیما یخصّ أوساط علماء الدین فهناک بعض العوامل التی تقف أمام تقدّم العمل الثقافیّ، منها ما هو مرتبط بقلّة الوعی عند بعض علماء الدین ممّن یتصوّر أنّ وظیفة عالم الدین تنحصر فی الفقه والأصول، وکتابة الرسالة العملیّة، وتقاضی الحقوق الشرعیّة غافلین عن أنّ العمل الثقافیّ هو وظیفتنا نحن علماء الدین أیضاً.
فإحدى سبل العمل فی الاتجاه الثقافیّ الإسلامیّ هو السعی لصیاغة نصوص دراسیّة جامعیّة فی مختلف فروع العلوم الإنسانیّة لنستطیع عن هذا الطریق خلق تغییر ثقافیّ ملموس. ولن نستطیع تألیف کتاب دراسیّ ووضعه فی مقابل کتاب الفیلسوف الغربیّ الفلانیّ، الذی ما زال یدَرَّس فی الجامعات منذ عشرات السنین، إلاّ بعد أن نکون قد بذلنا جهوداً فی هذا الحقل العلمیّ بمقدار ما بذلوا، وسَبَرنا غور کلّ خفایاه کی نتمکّن، من حیث الظاهر ومن حیث العمق معاً، أن نُعدّ مباحث ومواضیع قیّمة یمکن أن تحلّ محلّ سابقتها وتملأ الفراغ فیها، وهذا عمل صعب للغایة ولعلّ صعوبته هی التی تشکّل أحیاناً عائقاً أمام الإقدام على أوّل خطوة.
فمجموع هذه العوامل هو الذی یؤدّی إلى بقائنا على ما نحن علیه. ومن أجل الخروج من هذه الحالة لابدّ من أناس مضحّین یضعون الدعة والراحة جانباً، ویغضّون الطرف عن لذائذ عیشهم، ومصالح دنیاهم، والمناصب والمقامات ـ کالمجاهدین فی خطّ النار الذین یشقّون صفوف العدوّ فی میدان المعرکة ـ وینهمکون فی البحث والتحقیق، ویعملون على تنشئة کوادر متخصّصة، ویُعدّون خططاً تمکّنهم فی فترة زمنیّة أقصاها عشر سنوات من تربیة وإعداد أساتذة متضلّعین قادرین على إنجاز