تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

رائحة القصعین /5

قال أبو صالح : -انتبه یا علی إلى صخرة کبیرة حفرت فیها المیاه جرنًا. -لم أصادفها إلى الآن. أعدنا الکرة لثلاث ساعات متواصلة نرتاح حینًا ونبحث حینًا من دون جدوى. وحین هممنا أخیرًا بالاتصال بتیسیر عبر الجهاز اللاسلکی، إذ بنا نصادف العلامة: حفرة صغیرة وقد رکد فیها ماء أمطار أیلول. انتعشت ذاکرته وأدرک الطریق.
رمز الخبر: ۶۰۴۱۴
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۳:۵۸ - 07October 2014

رائحة القصعین /5

هادی قبیسی

قال أبو صالح :
-انتبه یا علی إلى صخرة کبیرة حفرت فیها المیاه جرنًا.
-لم أصادفها إلى الآن.
أعدنا الکرة لثلاث ساعات متواصلة نرتاح حینًا ونبحث حینًا من دون جدوى. وحین هممنا أخیرًا بالاتصال بتیسیر عبر الجهاز اللاسلکی، إذ بنا نصادف العلامة: حفرة صغیرة وقد رکد فیها ماء أمطار أیلول. انتعشت ذاکرته وأدرک الطریق.
- إنها باتجاه الشمال قرب أشجار صنوبر.
بعد دقائق عدة وصلنا إلى النقطة، وضعنا الحقائب والبنادق ثم جلسنا نستریح فی البقعة التی ستصبح موطننا للأیام القادمة. کانت هناک ملاءات بلاستیکیة مفروشة تحت إحدى شجیرات البلوط، وتحتها منظار وبعض العتاد العسکری: خوذ حدیدیة للرأس، دروع للصدر، وأشیاء أخرى. إلى جانبنا فی الجل الأسفل مدفعیة صغیرة تستعمل للهجوم القریب، وکان إلى خلفنا لجهة الشرق بضع أشجار صنوبر باسقة. فی الجو کانت رائحة الصعتر والقصعین المفترش الأرض إلى جوانبنا تبعث الدوار والانتعاش معًا.
إلى الشمال کانت التلة تنحدر نحو الوادی العمیق. فی مقابلنا کانت ترقد قریة "المشنقة" ببیوتها المتباعدة، تلتف بینها الکروم والأشجار، وتقطعها طریق ضیقة تتسع لسیارة واحدة، تنتهی إلى موقع عسکری یسمى موقع المشنقة. کانت تمتد أمام المنازل الجلول المزروعة بالزیتون والذرة واللیمون وبعض کرمات العنب. إلى الأسفل أبصرت بین الکروم منزلًا حجریًا قدیمًا قد انهدم سقفه. استلقیت على ظهری وأخذ الهواء یبدد عرقی. هذا الاحساس یجعلک تنسى متاعب المسیر المتواصل بین الجبال.
رفع أبو صالح الملاءات وأخذ المنظار. ثم راح یقلب نظره بین القریة والموقع. ولما وضع المنظار جانبًا وقعت عیناه علیّ فسألنی :
-هل أنت متعب؟
-قلیلًا.
ثم اقترب وأخذ درعًا من تحت الملاءة ووضعه على الأرض وجلس علیه.
سألته :
-کیف أتى الشباب بهذه المدفعیة إلى هنا؟
-لقد وضعها أبو الفضل على ظهر البغلة ووصل بها إلى النهر، ثم ساعده حیدر (رحمه الله) على حملها إلى هنا.
-أین هو الهدف الذی أتینا لرصده؟
-أترى ذاک المبنى المکون من ثلاث طبقات هناک؟
-نعم.
-یقطنه أحد العملاء اللحدیین، ویبلغ من العمر سبعین عامًا، وهو یذهب عادة کل یومین أو ثلاثة إلى الموقع سیرًا على الأقدام. یقضی عددًا من الأیام هناک ثم یعود.
-ماذا نرید منه؟
-سنرصد تحرکاته خلال الأیام الثلاثة التی سنقضیها هنا.
أخذت المنظار وحدقت بالمنزل، کان متدثرًا بالأشجار من الیسار والیمین، وأمامه امتدت جلول زراعیة جرداء، وحین أجلت الطرف بالقریة عامة بدت هادئة قلیلة السکان مع کثرة البیوت.
سألت:
-لماذا یقاتل هذا العجوز إلى جانب الصهاینة؟
-لعله اتخذها صنعة له، فبیته کبیر متعدد الطبقات، ویملک مساحة لا بأس بها من الأراضی، فهو یتقاضى مبالغ کبیرة لقاء عمله، ناهیک عن الخوات التی یفرضها على أهل القریة.
ورحت أراقب القریة بیتًا بیتًا. بدت قدیمة لم یتجدد عمرانها ولم ترتفع طبقاتها. کانت الشمس قد قاربت الزوال حین غط أبو صالح فی النوم، فیما شرعت أراقب ذاک المنزل. کان الهدوء لا یزال مخیّمًا على القریة، وکل بضعة دقائق کنت أضع المنظار على عینی وأحاول التحدیق أکثر فأکثر بانتظار أن یطل الهدف. وبعد لحظات تجولت قلیلًا حول النقطة التی استقرینا فیها، أبحث عن کل شیء غیر مألوف یشیر إلى وجود لغم أو متفجرات أو أی شیء. وبعد أن اطمأنیت إلى محیطنا، عدت إلى المنظار وراقبت القریة قلیلًا. ولما توسطت الشمس السماء أیقظت أبا صالح. انتظرته لیتیمم وینهی رکعاته لأسلمه المنظار، وأؤدی الصلاة، على بعد أمتار بین الشجیرات، حیث تناثرت حبات البلوط بین الحصى، وافترشت أوراقها الشائکة أدیم الأرض. فتشت عن حصاة ملساء یمکننی السجود علیها، ثم مهدت الأرض وأقمت الصلاة، ولما فرغت أتیت بکتابی القرآن والدعاء، تلوت بضع آیات ودعاءً صغیرًا من الصحیفة السجادیة، ثم رکنت إلى جانب رفیقی الذی کان یراقب الطریق الممتدة من الموقع إلى منزل العمیل.
-هل رأیت شیئًا؟
-کلا، لم یظهر إلى الآن.
-هل یمکن أن یکون قابعًا داخل المنزل؟
-کلا إنه غالبًا ما یخرج إلى الحدیقة، حسب ما رأیناه فی المرة السابقة، فهو یعتنی بها کثیرًا.
-أعطنی المنظار قلیلًا. هذا اللعین لا بد وأن نجده هذه المرة!
-کم أصبحت الساعة الآن؟
-هه، لقد نسیت الساعة.
-ترکتها فی القریة؟
-إننی دومًا أنسى هذه الساعة اللعینة.
کانت الشمس قد أصبحت فی مقابل أعیننا عندما أخذت تدنو للغرب فغدت الرؤیة شحیحة، وعبثًا، لساعات عدة متواصلة حاولنا العثور على العمیل، إلا أننا لم نره لا على الطریق ولا فی المنزل. ترکنا المنظار، وجلسنا على الدروع کی تقینا من الأشواک، ورحنا نحضّر الغداء.
-لقد أتیت ببعض البطاطا المطهوة، ألیس ذلک أفضل من الطعام المعلب؟
-نعم بکل تأکید.
-هذه المعلبات تثیر المعدة وتترکها خاویة.
- البطاطا المطهوة حل رائع.
أخرجت البطاطا من علبة صغیرة ووضعتها فی صحن بلاستیکی، ثم أتیت بأرغفة الخبز، أسندنا ظهورنا إلى جذوع أشجار البلوط وأکلنا البطاطا والبندورة. ثم أتیت بحبات الجوز، کسرناها وأکلنا ما فیها. لقد کان غداءً ممیزًا بالنسبة إلى سمک التونة المعلب الذی عهدناه.
قال أبو صالح وهو یضع المنظار على عینیه :
- ذهب الرفاق إلى منزله مرات عدة ولم یجدوه، کنا نرید أسره. وفی إحدى المرات ذهبنا، ومکثنا ثلاث لیالٍ فی حدیقة منزله، إلا أنه لم یأتِ.
-من کان فی تلک المهمة؟
-کان معنا أبو خلیل، وأبو الفضل. لقد بدأنا التحضیر لهذه العملیة بالرصد والاستطلاع منذ ثلاثة أشهر، ولم نحصل على أیة نتیجة.
-إنه لوقت طویل. کل هذا التعب، عشرات الدوریات المرهقة إلى هذه التلة النائیة دون جدوى!
-هذا طبیعی. إن مثل هذه العملیات قد یتطلب مدة طویلة.
-هل من الممکن ألا یأتی خلال مکوثنا هنا فی الأیام القادمة؟
-ینبغی أن یأتی إلى منزله، قال أبو صالح، وقد بدت على جبینه الذی لوحته الشمس علامات التفاؤل، فتنفست الصعداء.
قطعنا ملل النهار بأحادیث کثیرة، وتبادلنا النکات. کان أبو صالح قد بدأ ببناء داره فی کفرملکی استعدادًا للزواج، ووعدته أن أساعده ریثما نعود. حاولنا تبدید الوقت، وکنا نتحدث والمنظار على أعیننا.
 واخترق هدوء تلک اللحظات دوی انفجار قوی وتبعه آخر أشد منه قوة آتٍ من بعید، ثم سمعنا صوت الطائرات وهی تحلق على ارتفاع قلیل ومرت مزمجرة من فوقنا وأبصرناها وهی تلتف نحو الغرب... یتبع

رایکم
الأکثر قراءة