هادی قبیسی
... شیئًا فشیئًا انسل الضیاء وراحت غیوم أیلول تلبد ملامح الأفق، ولما تلاشى ما تبقى من الضیاء کانت القُرب قد فرغت. وقد حدثتنی نفسی بأن نواصل الرصد أثناء اللیل لعلنا نکتب شیئًا على دفتر الرصد. حملت المنظار ورکزت نظری على المنزل الذی ظل غارقًا فی الظلام، فرحت أرنو إلى الشارع الذی أضاءته الأنوار المعلقة على أعمدة الکهرباء، کان خالیًا تمامًا. مرت ساعة فی ذلک الصمت المطبق، ولم یعکر الجو سوى بعض الأنسام التی ذکَّرت شجیرات البلوط بحفیفها. ظللت أقلب المنظار بین فوانیس الشارع التی انعکست على جدران المنازل فصارت أشبه بجوانب تنّور وسط اللیل، وکنت أحدق فی الممرات الضیقة بین المنازل، ثم أعود لأراقب المنزل المقصود. ما من نتیجة. وضعت المنظار جانبًا وتوسدت حقیبة الظهر، وضعت البندقیة الباردة إلى جانبی بشکل مهیأ لإطلاق النار إذا حصلت أیة مفاجأة، فنحن فی الشریط الحدودی، إن لم نکن قد تعمقنا کثیرًا،. وما لبثنا أن غصنا فی نوم عمیق.
أفقت على قرقعة أحجار وکانت الأشجار التی تهزها الریح تصدر صوتًا مبهمًا فی الظلام. تناولت البندقیة، ووجهتها باتجاه الصوت. استمرت القرقعة، استیقظ أبو صالح وشرع ینصت، نظرت إلیه فقال:
-لن یأتی عملاء لحد الجبناء إلى هنا.
-ربما کانوا من الیهود.
-لا تقلق، ربما هی بعض الخنازیر.
لم أستطع أن أتأکد من مصدر الصوت وسط عتمة اللیل، وظلت سبابتی على الزناد حتى سمعت صوت الخنزیر، فعدت إلى النوم من جدید.
عند إطلالة الشمس سمعنا بعض الجلبة فی القریة، کانت بعض السیارات تذرع شوارعها ذهابًا وإیابًا. سمعنا صیاح بعض الدیکة وثغاء خراف. حملت المنظار على عجل وحدقت بالمنزل. بحثت فی زوایا القریة وثنایاها، ثم عدت إلى المنزل ودققت النظر بین أشجار حدیقته. بدا کل شیء ساکنًا. لساعات طویلة ساد فیها العطش، حاولنا العودة بحصیلة من المعلومات، مهما خف قدرها، دون جدوى. صلینا الظهر بین الأعشاب، وتناولنا طعام الغداء. عند العصر تولى أبو صالح الرصد، تمددت على الدرع وألقیت جانبی الخوذة الحدیدیة، ولجأت إلى کتبی أقرأ تارة، وألاحق بناظری العصافیر المتنقلة، بین الأغصان تارة أخرى.
کانت الشمس تطل بین الفینة والأخرى من خلال السحاب، فیندلق النور من ثنایا الأشجار دافئًا یثیر النعاس. کان الهدوء یحرر خیالی فأجول بین الکلمات مطلقًا العنان لأفکاری. کان کتاب العدالة مبعث التساؤلات التی لا تنتهی، وکان یبدو لی فی تلک الأیام کبحر لا یدرک له قعر، فکنت أقرأ من دون توقف إلا أننی لم ألمس القعر أبدًا. أما ذلک الکتاب العذب الذی لا تدری لم تستأنس بآیاته، فکنت أتحیر أمامه کأننی أمام حکیم لا حد لجلالته یلقننی شیئًا ما عن الحیاة، إلا أننی لم أکن أفهم دومًا ما یقول.
أتى طائر "أبو الحن" فترکت الکتاب ورمیت له ببعض الخبز. وبین الفینة والأخرى رحت أرقب مسیر النمل التی تذرع غصن الشجرة إزائی. وبین هذا وذاک أطلت صورة الغروب فشردت عن القراءة، وجعلت أتأمل أطراف الغیوم التی طرزتها الشمس الغارقة خلفها بخیط ذهبی.
لقد قال محسن: "صرنا نفکر بالعودة". کانوا قد مکثوا عشرین یومًا فی کمین فی عمق الشریط الحدودی، ینامون فی النهار ویستیقظون طوال اللیل، حقًا إن التفکیر بالرجوع أمر صعب جدًا، أو لعل البقاء أصعب. نعم، إن البقاء أصعب، تصبح الدنیا تراکم ساعات انتظار.
-هیا یا علی، لنتهیأ للعودة.
کان دفتر الرصد لا یزال خاویًا. بدأ أبو صالح یوضب المنظار والخوذ والدروع تحت الملاءات البلاستیکیة، وفوق تلک الملاءات وزع کسرات من أغصان البلوط للتمویه، وضع ما تبقى من أغراضه فی حقیبة الظهر ووضعت کتبی الغامضة والقرب الفارغة فی الحقیبة الأخرى. حملنا السلاح وتفقدنا عتلات الأمان، وارتدینا الجعب ووضعنا الحقائب التی غدت خفیفة بعد أن أفرغنا ما فیها من طعام وشراب. مع إطلالة الظلام شرعنا نذرع غابة البلوط باحثین عن الجرن الذی لم نتأخر فی العثور علیه، ورحنا نحث السیر بحملنا الخفیف، وحیث تحرکت قدمانا کانت تلامس نباتات القصعین البریة، فتثیر رائحة تشرح الرئتین وتذکرک بأنک لا تزال على أرض الجنوب.
وصلنا الطریق المعبد المؤدی إلى المنشآت، وما کدنا نطأ أرضه الملساء حتى سمعنا هدیر سیارة قادمة من بعید، بسرعة قفزنا جانبًا واختبأنا بین أعشاب الطیون الفائحة العطر. مرت السیارة وراقبناها خشیة أن تکون سیارة دوریة لجنود العدو. ثم رأیناها تمضی مسرعة حتى غابت عن أنظارنا. تابعنا المسیر نزولًا نحو الوادی، متفادین الطریق المعبد لئلا تصادفنا سیارات أخرى. وحسنًا فعلنا إذ کانت حرکة المرور کثیفة ساعة الغروب. عندما وصلنا تلة المنشآت، أسرعنا المشی لنقطع خط الأفق المکشوف للطریق المحاذیة، ووصلنا إلى بدایة انحدار التلة، کانت تلک الجهة التی وصلنا إلیها مختلفة عن التی أتینا منها قبل ثلاثة أیام: الأعشاب والأشواک التی تغطی الأرض تخبئ تحتها الحفر والانزلاقات والصخور. کان الانحدار الشدید یسمح برؤیة الأشجار تعانق النهر فی الأسفل، وعلى امتداد الأفق کان الغروب ینشر إزاره المائل إلى الحمرة.
هرولنا نزولًا لنقطع منطقة الخطر، خصوصًا وأن المساء لم یلملم بعد أشتات النهار. کنا عرضة للانکشاف من المواقع المطلة على المنطقة. وبین العَدْوِ واللّهاث وصلنا النهر. وضعت بندقیتی حقیبتی بین أشجار الحور ونباتات العلیق. تمددت على بطنی، غمست رأسی فی المیاه ورحت أشرب وأشرب حتى الثمالة. ثم استلقیت على ظهری، ووضعت رأسی بین کفی. أرحت قدمیَّ وأطلقت لأنفاسی العنان. أما رفیقی فلم یشرب کثیرًا لأن ذلک أدعى لتسهیل المشی، استراح قلیلًا ومضى یجهز نفسه. وبعد أن خمد اللهاث عاودنا المسیر، فتشنا عن المطحنة یسارًا ویمینًا لم نجدها. غرق الوادی فی ظلام کلی. صار البحث أمرًا متعذرًا. وعندما حاولنا إضاءة البطاریة تبین بأنها محترقة. فی الأیام التی قضیناها فی تلة الصنوبر، مرت ساعات الملل طویلة، فکنت خلال إحداها قد فککت البطاریة، واکتشفت أنها مزودة بقطع غیار.
قلت لأبی صالح:
- أنا أصلحها.
- کیف ستصلحها؟
- فیها قطع غیار جاهزة.
وتحت عتمة اللیل، فتحت البطاریة وأخرجت قطع الغیار وأصلحتها. أصبح من الممکن العثور على مواطئ الأقدام وسط تشابک حبال العلیق البری والأشجار الکثیفة المتراصة على ضفتی مجرى المیاه، الذی أخذ یغور فی العمق فی تلک الناحیة. ولما أضاءت البطاریة ما حولنا بدا عرض ضفة النهر مضاعفًا عما رأیناه فی المرة السابقة. إنها منطقة مختلفة تمامًا. فرحنا نبحث عن طریق جدید...
یتبع حلقة 8 - الأخیرة
المصدر: الموقع الرسمی للمقاومة الإسلامیة فی لبنان