19 November 2024
رائحة القصعین 2

نحو مواقع العدو

کم سنقترب یا ترى من المواقع اللحدیة؟ ومتى سنصل إلى النقطة؟ هل سنصادف کمینًا خلال المسیر؟ إحتشدت هذه التساؤلات عندما کانت أغصان الزیتون تلامس رأسی ونحن نبتعد عن المنازل. عندما وصلنا الجهة الشمالیة للقریة، هبَّ الهواء باردًا نقیًا یمسح جبین التلال التی بدت ثملة بالشجیرات.
رمز الخبر: ۶۰۱۱۱
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۵:۴۶ - 27September 2014

نحو مواقع العدو

هادی قبیسی

قال تیسیر : هیا، اتکلوا على الله.
حملنا الحقائب الظهریة وأسلحتنا والجعب ونزلنا من السیارة،. رفعنا أیدینا إشارة التحیة، ثم شرعنا فی  المسیر تحت أجنحة اللیل. عاد تیسیر إلى کفرملکی. عندما ابتعدت سیارته کنا قد بدأنا نُصَعِّد التلة المحاذیة، وکانت أعیننا التی اعتادت العتمة تمکننا من تلمس طریق شقتها أقدام المجاهدین بین الأشواک والأزهار والشجر الملتف. التفینا بین الجلول التی حُرِثَت أرضها حدیثًا، فانغرزت أقدامنا فی أثلامها، ومررنا تحت نوافذ قریة قابعة على التلة، غائرةً أضواؤها الکئیبة فی الظلام.

کم سنقترب یا ترى من المواقع اللحدیة؟ ومتى سنصل إلى النقطة؟ هل سنصادف کمینًا خلال المسیر؟ إحتشدت هذه التساؤلات عندما کانت أغصان الزیتون تلامس رأسی ونحن نبتعد عن المنازل. عندما وصلنا الجهة الشمالیة للقریة، هبَّ الهواء باردًا نقیًا یمسح جبین التلال التی بدت ثملة بالشجیرات. أنزلنا حمالة البنادق عن أکتافنا، وحملناها بالأیدی وبدأنا ننزل الوادی الذی بدا شدید الغور، بحیث لم نر قعره، وازدادت وعورة الطریق التی لم تقربها أیدی الفلاحین، ولا أقدام الصیادین لشدة انحدارها، فغدت تدلف بانحناء شدید حتى تتصل بطریق معبد، یقطع التلة فی وسطها. کان الحذاء العسکری، الذی انتعله قبلی عدد لا یحصى من المقاتلین، قد غدا کعبه قاسیًا وزلقًا. وکان الظلام المخیِّم یبطِّئ مشینا. وبعد سیر طویل متکئین على أعقاب البنادق، ومحطات کثیرة للاستراحة، وصلنا الطریق المعبد. انتحینا جانبًا نتفقد المنطقة. کانت الطریق محاطةً بنباتات "الطَیُّون"، وإلى الأمام کانت التلال تمتد بلا نهایة. کانت تبدو تحت الظلام الدامس، کتلة واحدة مترامیة الأطراف. سمعنا هدیر محرک سیارة، ثم برقت أضواؤها من بعید.
أبو صالح : إنتبه یا علی، هذه طریق تمر علیها دوریات جنود لحد.
وثبنا بسرعة إلى قناة میاه جافة بمحاذاة الطریق، حتى مرت السیارة التی لم تدل أیما إشارة على أنها عسکریة.
- هیا یا علی، لقد ابتعدت السیارة.
نهض مهرولًا أمامی فتبعته، ثم قفز جانبًا. کان هدیر سیارة أخرى یقترب، فقفزت خلفه حتى مرت أضواؤها التی اکتسحت الظلام. بعد هنیهة، جدینا السیر حتى دلفنا نحو طریق قدم تمتد نحو عمق الوادی، وأبصرت السفح وقد افترشت کثبانه الصغیرة أعشاب القصعین والطیون والصعتر، وبدأنا ننزل بتؤدة، فالطریق ما تزال وعرة، وشدة الظلام تزید فی الحذر. بعد نصف ساعة من التزحلق على طریق بالکاد تتسع لقدمین، وصلنا طریقًا ترابیًا واسعًا ارتکست على أطرافه أشجار الحور والإجاص، ووسط العتمة القاتمة فی ظل غیاب القمر، کان خریر النهر القریب یصیخ بالخیال، کأنه تهطال المطر، وخلف ذلک کنت تشعر بالصمت یلف الأرجاء بوقار.
شربنا الماء من النهر، وجلسنا قلیلًا ریثما نعاود الانطلاق. نزعت حذائی لأرى ما یضایقنی فی قعره، فإذا هی قطعة معدنیة توضع لتثبیت الکعب برزت من مکانها وراحت تحک قدمی. نزعتها، ثم انتعلت الحذاء مجددًا.
وسط النسائم الندیة المنبعثة من مجرى النهر، وعبق الأرض الرطبة، کانت رائحة القصعین قد استباحت الوادی بحیث تملأ أنف المار بتلک المنطقة البکر، بفوح عطرها. وکانت الریح قد صمتت، وأخلت الجو للنهر لیسترسل فی حدیثه اللیلی. تهدلت أوراق الحور الطویلة الیابسة مع الأنسام، لتلاقی المیاه المنسابة فی خشوع. وکانت التلال المرتفعة تحیط بتلک الوهدة من کل الجهات.
أبو صالح : سنقطع هذا النهر على ضوء بطاریة ید، فالتقاء أشجار الضفتین قد أغرق مجرى النهر فی ظلام دامس.
سمعت جلبة وسط الأشجار، فجهزت بندقیتی، ووضعت یدی على الزناد.
أبو صالح : هذا خنزیر، إنه صوت خنزیر.
علقت بندقیتی على کتفی، ثم جلست إلى صخرة بجانب الماء أملأ القُرَبَ. غمست یدی واغترفت غرفة، فإذا المیاه عذبة صافیة، کأنقى ما یکون.
مشینا بمحاذاة النهر الذی تلاقت وتشابکت فوقه أغصان الأشجار المصفوفة على جانبیه لترسم مغارة طبیعیة الجدران، حتى أن القابعین فی مواقعهم على قمم التلال المجاورة لا یستطیعون رؤیة ضوء بطاریة ید وسط الظلام. نباتات العلِّیق البری ذات الأغصان الشبیهة بالحبال، کانت تلتف على الأشجار تصل بعضها ببعض وتلامس الأرض، فکنا نقطعها کلما علقت أشواکها القاسیة بأقدامنا.
 قال أبو صالح :
- علینا المکوث إلى جانب النهر حتى الصباح.
ثم أخذ یجول ببطاریته باحثًا عن علامة تقودنا إلى مکان مبیتنا تلک اللیلة، وهو عبارة عن أحجار عدة، رُصفت فوق بعضها بإزاء شجرة حور کبیرة. سرنا على أطراف القناة الممتدة بمحاذاة المجرى، وبعد بضع خطوات تائهة أدرک أبو صالح أننا أضعنا العلامة، فقفلنا عائدین إلى الموضع الذی دلفنا منه، إلى مجرى النهر علنا نعید الکرة فنعثر على العلامة. بحثنا حوالی الثلث من الساعة دون جدوى. کان اللیل قد انتصف، وأحذیتنا مملوءة بالمیاه تثقل خطانا، وکانت أربطة حقائب الظهر تحز کتفای تحت ثقلها.
بحثنا عن مکان للمبیت، أی مکان، فعثرنا على بقعة صغیرة خلف شجرة حور ضخمة، غابت عنها حبال العلیق البری. وهناک أعطیت لأنفاسی فرصة للهدوء، ألقیت حقیبة الظهر إلى الأرض وضعت البندقیة بجانبها، وجلست أرتاح.
-سوف ننام هنا. قال.
-حسنا، إنها بقعة جیدة.
-هل التفتَّ إلى خریر النهر وحفیف الشجر؟
-إنها منطقة جمیلة بالفعل!
یتبع...  

المصدر: الموقع الرسمی للمقاومة الإسلامیة فی لبنان

 

 

رایکم
الأکثر قراءة
احدث الاخبار