تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

رائحة القصعین/3

وضعت رأسی على حقیبة الظهر، وأسلمت السمع لخریر النهر والهدوء المنساب من تلک الموسیقى الطبیعیة. مددت رجلی، المبللتین من أثر عبور النهر، بقدر ما استطعت فی تلک الزاویة الصغیرة. وکمن مل الإحساس بالخطر، غفوت مطمئنًا، ولم أعر انتباهی لذاک الدبیب الذی یصدر عن حیوانات اللیل، بما یشبه وقع أقدام الإنسان.
رمز الخبر: ۶۰۱۶۳
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۰۸:۵۶ - 29September 2014

رائحة القصعین/3

هادی قبیسی

کانت المیاه تتهادى کأنها تغفو وبدت سوداء غارقة فی القتام، وصدى نقیق الضفادع یتردد على امتداد الوادی وعلى امتداد المجرى. حملت بندقیتی ورحت إلى الماء. ألقیتها على صخرة بجانبی غمست یدی وشرعت أغسل وجهی الذی بلله العرق، وأهلت بعض الماء على رأسی. کانت رطوبة الهواء فی ذلک القعر تبعث فی رئتای الإحساس بالانتعاش. قفلتُ عائدًا نحو شجرة الحور الکبیرة أتحسس طریقی بقدمی، فوجدت أبا صالح وقد تمدد على الأرض. شاب أسمر یعمل فی الزراعة مع والده أیام إجازته. قصیر القامة، مفتول الکتفین، ذو بنیة قویة، ریاضی، یهوى کرة القدم. کان خلیقًا ببنیته أن تعینه على تحمل المهمات الصعبة، وکنت بالنسبة إلیه مجرد مبتدئ فی الحیاة العسکریة بکل تعقیداتها ومتاعبها.
وضعت رأسی على حقیبة الظهر، وأسلمت السمع لخریر النهر والهدوء المنساب من تلک الموسیقى الطبیعیة. مددت رجلی، المبللتین من أثر عبور النهر، بقدر ما استطعت فی تلک الزاویة الصغیرة. وکمن مل الإحساس بالخطر، غفوت مطمئنًا، ولم أعر انتباهی لذاک الدبیب الذی یصدر عن حیوانات اللیل، بما یشبه وقع أقدام الإنسان. ما هی إلا هنیهة حتى استیقظت على نداء أبی صالح لصلاة الفجر. کم تحلو الصلاة هنا، کم یقترب بنا الدعاء والتسبیح. من شدة التعب غفت عینای من جدید. لا أدری کم مر من الوقت حتى أفقت من جدید وضیاء الشمس یسیل من بین فروع الحور یعانق تراب الأرض، وینعکس على المیاه بریقًا متلألئًا. وفیما ضجت الطیور تتلو صلواتها الصباحیة، نظرت حولی لأعرف أی وادٍ سلکنا اللیلة الفائتة. خلعت حذائی العسکری الطویل، وکذلک جوربیّ الخضراوین ووضعتهما إلى جانب حقیبة الظهر. نهضت وخطوت فوق الأعشاب والأشواک نحو النهر. غرفت بضع غرفات طردت بها غشاوة اللیل عن وجهی، فسرت قشعریرة فی بدنی. تجمع باقی أفراد المجموعة. أسندنا ظهورنا إلى شجرة الحور، وکانت أنظارنا إلى النهر. تبادلنا بعض الأحادیث عن اتجاه الدوریة. قال أبو صالح إنها المرة الثانیة التی یأتی فیها إلى هذه المنطقة، فهو لم یحفظ الطریق جیدًا بعد، إلا أنه أکد أننا لن نتیه مجددًا.
-هل ترید تناول الفطور؟ سألته.
-نعم، فلنبدأ بتحضیره. رد أبو صالح، وشرع یمهد الزاویة التی رکنا فیها، مُزیحًا الحجارة والأعشاب.
فتحت الحقیبة الملقاة إلى جذع الشجرة، فوجدت فیها علبة جبن، وبعض الخیار وعلب عصیر وفواکه مغمسة بالماء. أخرجتها وأتى أبو صالح بالخبز، ثم شرعنا نتناول ما بین أیدینا بشراهة، بعد لیلة قضیناها بدون طعام. بعدها خلد أبو صالح للنوم ثانیة، فجلست إلى جانب المیاه الرقراقة ارقبها فی ارتجاجاتها وترنحها وعبور الحشرات على سطحها، ومررت الطرف إلى أقصى ما بدا لی من النهر، حیث أهوت الأشجار إلى المیاه فی خشوع، فعلقت بها بعض الطحالب. کان قعر النهر مفروشًا بالحصى والحجارة، وعلى أطراف المجرى ارتفعت بعض النباتات. وأبصرت بقع الرمل الأبیض الناعم وقد تناثرت على الضفاف، وبینها توزعت بضع حجارة مکسوة بالطحالب الخضراء. وکانت الضفادع تقفز بین الضفتین ثم تغطس فی الماء. إن مظاهر الطبیعة کافیة لتؤنسک حین ینام الأصدقاء، أو یفضلون الصمت. مرت الدقائق طویلة، إلا أنه کان ینبغی أن نمکث نهارنا بجانب النهر، حیث یتعذر علینا عبور تلة کفرفالوس الجرداء التی تشرف مواقع العدو علیها. 

عندما أطل الظهر صلینا ونزلنا إلى المیاه قلیلًا، کی نتخفف من الحر. بعد ذلک تناولنا غداءً من سمک التونة المعلب، وبعض الحامض والبندورة. ثم حملنا الحقائب وحثینا الخطى صعودًا إلى جانب النهر. استمر السیر ساعةً تقریبًا، إلى أن وصلنا مفترق طرق قدم، تتطاول نحو قمة تلة کفرفالوس. هناک بین أشجار الصفصاف، کانت ترقد إلى جانب النهر مطحنة تعمل عبر ضغط میاه النهر. یعود بناؤها إلى مئة سنة أو أکثر. بعض من الطین والقش والأغصان الغلیظة، هذا هو السقف، وجدرانها بعض الحجارة الصامدة، وقد نبتت فیها الأعشاب والزهور البریة الصغیرة. وبین الحجارة صمدت صخرة ضخمة مستدیرة مثقوبة الوسط، کانت ملقاة بین الأعشاب على أرض المطحنة. جلس رفیقی یستریح، وبعد دقائق أخرج من حقیبته قربة کبیرة وملأها استعدادًا للابتعاد عن النهر، ثم التفت إلیّ معلنًا استئناف المسیر من جدید، على أمل ألا نضیّع طریقنا مرة أخرى.
یتبع...

المصدر: الموقع الرسمی للمقاومة الإسلامیة فی لبنان

رایکم
الأکثر قراءة