رائحة القصعین 4

هادی قبیسی

صادفنا بعض أشجار الجوز والحامض وقد تدلت ثمارها عن الأغصان، فجذبت أغصانها العالیة وقطفت منها ووضعتها فی جیبی ولحقت بصدیقی. کان لا بد من الإسراع فی المشی لنصل قبل أن یسدل الظلام ستاره، وتصیر الرؤیة ضئیلة فتزداد إمکانیة الضیاع ، خصوصًا أننی لا أعرف الطریق، وأبو صالح هذا مشواره الثانی إلیها.
بدأت الطریق سهلة غیر ممتنعة لبضعة أمتار، هنیهة، وأخذت تشرئب وتنحدر، وکانت تقطعها من حین لآخر بعض الصخور العامودیة الجانب، أعانتنا نباتات العِلّیق على تسلقها. وعندما کنت أحاول صعود إحداها، نظرت إلى الوادی خلفی، فأبصرت التلة الجرداء منحنیة إنحناءً شدیداً، فأدرکت أن أیة زلة قدم ستعیدنی إلى مجرى النهر مباشرة. بعد نصف ساعة من التسلق، وصلنا منتصف التلة، حیث بدأت الطریق تعتدل، وکانت أنوار الشمس تغور باتجاه البحر، لیغشاها الظلام الشفیف. جلسنا نلتقط أنفاسنا خلف صخرة تحجبنا عن أنظار المواقع اللحدیة. حولت الطرف نحو التلال المحیطة، التی کان الظلام المتساقط یجعلها تبدو وکأنها بعیدة الغور. کنا قد بدأنا نرتفع حقًا. وکان صوت اللهاث المنبعث من رئتی یرتفع کلما ازددنا ارتفاعًا. دقائق وعاودنا المشی مسرعین لنصل قمة التلة، حیث سننطلق فی الجزء الأخیر من مسیرنا. بعد لأی وصلنا معبر کفرفالوس. کان إلى یسارنا وکنا إلى الخلف منه، على بعد مئات الأمتار. کان عبارة عن غرفتین على جانبی الشارع. سرنا بمحاذاة الطریق مبتعدین عنه، حیث بدت أمامنا أبنیة استخدمها الصهاینة کموقع لهم فی السابق، وأجبرهم المقاومون، بعد استهدافها مرارًا بمدافع الهاون، على الرحیل. کانت شبه مدمرة، وکنت أشاهدها بالمنظار من کفرملکی فی الأیام الفائتة.
قال أبو صالح :
-    ینبغی أن نقترب من "المنشآت".
-    وماذا سنفعل هناک؟.
-    سنستطلعها ثم نؤدی صلاة المساء، فقد حان وقتها.
توقفنا قریبًا من "المنشآت". کانت مبانی ضخمة جدًا، شُیِّدت لتکون منتجعات سیاحیة فی الأصل. کان الظلام الفاتر قد جعلها تبدو وکأنها خربة مهجورة.کانت المنطقة هادئة، ولم یبدُ أن أحدًا یتردد إلیها، وکانت الأبنیة المهجورة مکانًا متوقّعًا لنصب کمین، حیث کانت تطل على طریق مسیرنا، وکان علینا أن نغادر بسرعة. أقمنا الصلاة دون أن نخلع أحذیتنا، ثم عبرنا الطریق المعبد بین المعبر والمنشآت، ورحنا نهرول إلى داخل الشریط المحتل.
رفعنا الأسلاک الشائکة الممدودة بمحاذاة الطریق، انحنینا وعبرنا من تحتها. استدرت ونظرت إلى المعبر، کان کل شیء ما یزال هادئًا. رحنا نُصَعِّد تلة قلیلة الارتفاع، تکسوها أشجار البلوط الصغیرة. هناک عاد الظلام یمنعننا من رؤیة معالم الطریق بین نباتات البلان والأحجار المتناثرة. واصلنا المسیر نتحسس مواقع أقدامنا دون أن نراها. أبو صالح یبحث عن علامات طریقنا کالمعتاد وأنا خلفه. وکان من المنطقی فی تلک العتمة أن لا یجد العلامات بسهولة. لقد تهنا من جدید!
-فلنجلس قلیلًا، قلت منهکًا.
-یمکننا أن ننام هنا هذه اللیلة، ولکن على أن نستیقظ باکرًا عند الفجر، ونُجِدَّ السیر لنصل قبل الشروق.
-أنا سأوقظک غدًا، لا تقلق.
من خلال غابة البلوط الواجمة، تراءت قریة کفرفالوس ومعبرها. کانت أضواؤها الناعسة التی تطل من الضباب کفانوس عتیق، تجعلک تظن أن القریة أبعد مم هی علیه. کان الشارع المؤدی إلى المعبر غارقًا فی الظلام وهادئًا، ولولا الأضواء المنبعثة بخجل من بعض النوافذ، لبدت القریة مهجورة تمامًا.
تمددنا على وسادتنا المعتادة "حقیبة الظهر". کان العرق الذی بلل ثیابنا یساعدنا على الاسترخاء والإغفاء بسرعة. أخذت قربة الماء الصغیرة التی علقتها بجعبتی، شربت قلیلًا وأعطیتها لزمیلی، ثم غفونا.
أحسست بشیء یقفز على صدری، تطلعت فوقع نظری على جرادة تحاول إیقاظی للصباح. کان الهواء منعشًا ورطبًا، والضباب ما یزال یرتع بین أشجار البلوط. کان الطلل یکسو أوراق الشجیرات والأعشاب وقد بلل ملابسنا حتى صرت أرتجف من البرد. نهضت إلى رفیقی أوقظه. تیممنا لصلاة الصبح، کی تکفینا المیاه التی بحوزتنا للأیام القادمة. صلینا على عجل لنسابق شمس الصباح، قبل أن تکشف الضباب المُخَیِّم فی الربوع. فککت رباط حذائی وأعدت ربطه بقوة، ثم حملنا البنادق وعلقناها على الأکتاف، ثم شرعنا نقطع طریق قدم یغور فی عمق غابة السندیان، وحین صرنا فی وسطها، بدت طرقات القدم متشابهة وأشجار السندیان متماثلة الطول، ولم نشاهد أشجار الصنوبر التی تقع قرب النقطة المقصودة:خمنت أن صدیقی قد فقد العلامات وأضاع الطریق، للأسف، کان هذا صحیحًا!
کانت الشمس قد سطعت على تلک التلة وانقشع الضباب، وها نحن ندور فی حلقة مفرغة بین الأشجار...

المصدر: الموقع الرسمی المقاومة الإسلامیة - لبنان