تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

العرب والعنف.. لماذا استیقظ الوحش

یطرح مشهد العنف فی العالم العربی أسئلة معقدة حول العوامل الآیلة إلى تنامی العنفیات المحیطة بنا. لیست الحرب والدمویة والعدوان خصائص تطبع تاریخ العرب وحدهم. عرفت الأمم فی مسارها المتعرج عنفاً ثلاثیاً: سیاسیا ومجتمعیا ودینیا. العنف ظاهرة ما قبل تاریخیة سبقت الإنسان المتحضر وما زالت إلى الآن تصنع حاضره.
رمز الخبر: ۶۰۹۹۴
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۲:۴۶ - 30October 2014

العرب والعنف.. لماذا استیقظ الوحش

یطرح مشهد العنف فی العالم العربی أسئلة معقدة حول العوامل الآیلة إلى تنامی العنفیات المحیطة بنا. لیست الحرب والدمویة والعدوان خصائص تطبع تاریخ العرب وحدهم. عرفت الأمم فی مسارها المتعرج عنفاً ثلاثیاً: سیاسیا ومجتمعیا ودینیا. العنف ظاهرة ما قبل تاریخیة سبقت الإنسان المتحضر وما زالت إلى الآن تصنع حاضره. شهدت الإمبراطوریات کافة عدوانیة تتجاوز إلى حد ما ملحمة الدم والثأر فی الدیار العربیة، أرض الخلافات والوصایات.

أجمعت غالبیة المؤرخین والمفکرین على أن تاریخ البشر هو تاریخ العنف. لم تعش البشریة فی حال وئام إلاّ فی غضون ثلاثمائة سنة لیس أکثر. فی القرن السابع عشر هلک 3,3 ملایین إنسان، وفی القرن الثامن عشر هلک 5,2 ملایین إنسان، أما فی الحربین العالمیتین فقد حصدتا 9,5 ملایین إنسان فی الأولى، وما یقارب الخمسین ملیون إنسان فی الثانیة. (راجع: سهیل العروسی، العنف: مقدمات ونتائج).

یتحدث سیغموند فروید (1856 ـ 1939) فی کتابه "مستقبل وهم" عن أن کل "إنسان تعشّش فیه میول هدامة مناهضة للاجتماع والمدنیة (...) إذا رُفع کل حظر أو التزام حضاری". وقد رأى البرفیسور عدنان حب الله (1935 ـ 2009) أن الکائن البشری "یحمل فی طیات نفسه جرثومة الحرب الأهلیة، بمعنى أن ما من مجتمع معصوم منها، إذ یکفی أن تتوافر الشروط الضروریة کی یستعاد ما کان مکبوتاً، ماحیاً حقوق الإنسان واحترام حق الاختلاف وحتى مفهوم الدیموقراطیة".

کتب مختصون فی مجالات مختلفة عن الدوافع العدوانیة فی سلوک البشر، ویُعد کتاب عالم النفس الألمانی إریک فروم (1900 ـ 1980) "تشریح التدمیریة البشریة" من الکتب الرائدة . لم تحظَ عنفیات العرب بالاهتمام العلمی الکافی فی فهم مسبباتها، وستبقى الأدبیات عاجزة عن الاحاطة بها ما دام السلطان السیاسی والدینی یمارس لعبة التجهیل والإخفاء لفهم أزماتنا الدوریة.

ثمة حال من الخوف والرعب فی العالم العربی منذ استفحال الصاقع الداعشی الجهادی الذی یتفنن ویمارس أشد أنواع العنف باسم الدین، فیستبیح الجماعات والدول ویبدل معالم الخرائط ویذبح ویرجم ویقتل بلا أی رادع أخلاقی أو دینی. یتساءل البعض کیف استیقظ هذا الوحش؟ وهل هناک أرضیة عمیقة ساعدته على الخروج من عتمة الماضی؟ تشکل المجتمعات العربیة مختبراً حیاً لمن یرید من علماء الاجتماع والسیاسة والتحلیل النفسی درس أسباب العنف وبواطنه التاریخیة المتعددة المشارب والعمیقة بنیویاً.

یحتل العنف الدینی موقع الصدارة عند العرب. عدد لا یستهان به من المعاهد والمدارس الدینیة الإسلامیة تنتج ثقافة إقصاء الآخر والموت، وتصور الإله فی صورة الله الثأری والمنتقم؛ رب الجماعة الناجیة وفرقها المتقاتلة والمتصارعة على المقدس. الأخطر أن المؤسسات الرسمیة فی دول عربیة عدة تبارک وتسکت عمّا ینتجه شیوخ الفتنة الذین یعانون من نرجسیة عدوانیة باسم المتعالی، فیبیحون استخدام العنف الرمزی والمادی، المستمد من إسلام الفقهاء، ویروجون للکراهیة والحقد، تجاه کل من یختلف عنهم من مسلمین وغیر مسلمین، ویغذون شعائر وطقوس الموت التی تتبدى فی حلقات التعلیم الدینی وتتمظهر فی بعدین: تکریس العداء تحت رایة الجهاد؛ وتکفیر الآخرین، أی قتلهم وإلغاؤهم من الوجود. لا تندرج کل حلقات التعلیم الدینی فی العالمین العربی والإسلامی ضمن هذه الخانة، فهناک محاولات للإصلاح لکنها تجری ببطء شدید لا یواکبها تشجیع رسمی یسمح بارساء التعایش بین أبناء الدین الواحد، ویجعل الدین قاعدة من قواعد انتاج المعرفة الدینیة واعتباره جزءاً من المنظومة الأخلاقیة.

سیاسیاً، حولت الأنظمة العربیة الطغیانیة المجتمعات إلى بؤر متوترة ومضطربة بسبب إفراطها فی الاستبداد واحتکارها للسلطة باسم الأبویة السلطانیة، فهمشت المعارضة، ولم ترسِ قواعد متینة للعدالة الاجتماعیة التی تأتی فی طلیعتها معالجة مشاکل الفقر ومحو الأمیة. هذه المعطیات وغیرها فجرت مستویات من العنف تتضح بشکل جلی فی الدول التی دخلت قاطرة "الثورات العربیة". لماذا؟ لأن الدولة ضمن شروطها الأدنى غابت، فخرج کل العفن التاریخی وکل الأمراض الاجتماعیة المتراکمة والمکبوتة. إذ إن "السلطة والعنف متعارضان؛ فحین یحکم أحدهما حکماً مطلقاً یکون الآخر غائباً"، هذا ما خلصت إلیه الفیلسوفة الألمانیة حنة أرندت (1906 ـ 1975). ولکن کیف یترجم عربیاً؟ تظهر السلطة عندنا فی إطار الدولة الریعیة: دولة الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائریة السیاسیة، أی تلک الدول غیر الراغبة فی الاصلاح والدمقرطة والتغییر، فتحکم الجموع الغفیرة والغفورة باسم أحادیة تعزل الجمهور عن صناعة القرار. هذه السلطات فی الأساس سلطات مأزومة، أی توتر داخلی أو حراک احتجاجی مطلبی یفقدها الشروط الأولیة لادارة الأزمة فتمارس هنا أدواراً مختلفة: القمع، طمس الحقائق، والتعمیة. ولعل کبت الحریات فی أنظمتنا وغیاب أسالیب التعبیر عن الرأی وتقلیص حراک المجتمع المدنی وهدر کرامة الإنسان، ساعدت کلها على تدشین العنف المجتمعی المستمد من عنف السلطة والعنف الدینی أیضاً الذی یقدم الغطاء الشرعی للأول.

یرى عالم النفس المصری مصطفى صفوان أن المجتمعات العربیة تعیش فی حال حداد مستمر على الحریة. الحداد یصاحبه قلق جماعی من المستقبل وتمسک بالماضی کأنه جسر الخلاص من الحاضر المؤلم والغد الغامض. هذا إلى جانب الکآبة الملحوظة فی المزاج العربی العام، حیث تفاقمت فی موازاة العنف الجهادی رمزیات العنف المجتمعی التی عبرت عن نفسها فی أنماط عدة، من ضمنها اعتیاد الناس على التلقی السلبی لمشاهد القتل الفردی والجماعی، الذی تنقله وسائل الإعلام العربیة بلا رقابة.

وهذا یجعل کل "شخص یشاهد العنف مهیأ أکثر من غیره لیکون هو نفسه عدوانیاً، لأنه لا یستطیع التخلص من منبهات العنف"، کما استنتج لیونارد بیرکینز. یمکن الکشف عن مؤشرات أخرى للعنف الرمزی تظهر فی ردود أفعال الناس حیال مشاهد القتل، حیث یلاحظ المراقب أن ثمة لامبالاة عامة. وهذا إن دلّ على شیء، فعلى غیاب الجامع الإنسانی بین العرب، فغدت کل أمة لنفسها غیر معنیة بما یجری حولها. یُرَبَّى الفرد فی العائلات العربیة على التبعیة وعدم استقلالیة الرأی والارتباط بالطائفة والمذهب والعشیرة بدل الولاء للوطن، ویتم تأطیره کی یکون کائناً دینیاً یسلم بالغیبیات، کما یکرس المجتمع ثقافة الإذعان ما یؤدی إلى هدر الوعی الفردی الناقد وإلى تحجر العقول.

یستمد العنف فی العالم العربی قوته من منابع سیاسیة ودینیة ومجتمعیة. لا یمکن إحالته على مصدر واحد، غیر أن العنفیات من زاویتها الدینیة تعتبر الأخطر، کونها تراهن على المقدس الجاری الصراع علیه، وترید اعادتنا بالقوة إلى حروب صفین وأخواتها، ما یؤکد مستوى العجر فی مواجهة المشاکل وتوفیر الحلول لها. لقد أیقظ الوحش الجهادی التکفیری بقعة سوداء نائمة، فأثار المخزون العنفی التاریخی الکامن فی مجتمعات کئیبة مختطفة من قبل الاستبدادین الدینی والسیاسی.

المصدر: جریدة السفیر
رایکم
الأکثر قراءة