تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

الحرب فی سوریا تدمی أوابدها التاریخیة

«... وعلى جناح الارجاس مخرب حتى یتم ویصب المقضی على المخرب» (دانیال، 9:27)
رمز الخبر: ۶۱۴۷۷
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۴:۵۴ - 15November 2014

الحرب فی سوریا تدمی أوابدها التاریخیة

 موریس قدیح

«... وعلى جناح الارجاس مخرب حتى یتم ویصب المقضی على المخرب» (دانیال، 9:27)

نشر مکتب برامج الاعلام الخارجی فی وزارة الخارجیة الامیرکیة نبذة صغیرة تقع فی صفحتین فی شهر ایلول 2014 بعنوان «تراث فی خطر: العراق وسوریا». قد یبدو الأمر للوهلة الاولى هزلیاً لسببین، الاول طابع الترف المتمثل بالاهتمام بالثروة التاریخیة لبلدان تدفع شعوبها فاتورة بشریة باهظة بسبب الحروب، والثانی بسبب الجهة التی اصدرت النبذة نظراً للکارثة الأرکیولوجیة والنهب المنظم للثروة التاریخیة للعراق التی حصلت فی خلال فترة احتلالها لهذا البلد بعد غزوه فی 2003.

لکن الموضوع اکثر جدیة ومأسویة کونه یهدد بطی صفحات عظیمة من تاریخ شعوب المنطقة وارسال شواهد کبرى منها الى العدم، وهذا سبب کافٍ للاضاءة على المسألة. فی مقال سابق (نشر بدایة العام الحالی)، عُرضت فکرة عامة عن وضع الثروة التاریخیة السوریة، مع شرح وتفصیل لبعض الحالات نظراً إلى أهمیتها، لکن عمر الازمة ووقوع 93% من الثروة الاثریة والتاریخیة فی هذا البلد ضمن مناطق النزاع المسلح و/ أو النزوح، وتطورات الحرب التی جعلت قسماً من البلد تحت سیطرة المجموعات المسلحة، یفرض تأوینا فصلیاً على لائحة قابلة للتعدیل بشکل شبه یومی بالأساس.
 

یبقى المرجع الأساس لجرد المواقع التی تعرضت للضرر لوائح المدیریة العامة للآثار والمتاحف فی سوریا، التی کانت قد اعدت لائحة اولى تغطی الفترة بین بدایة الحرب الى نهایة اذار 2014، تلتها لائحتان الاولى تغطی الفترة بین نیسان وآخر حزیران 2014، والثانیة من تموز الى نهایة ایلول 2014.
بمراجعة هذه اللوائح یتبیّن الترکیز الجغرافی لکثیر من هذه الأضرار، ما یسمح بجردها ضمن مجموعات، کحلب، ریف حلب (المدن المیتة)، بصرى فی درعا، ماری، دورا اوروبس وعدد من التلال الاثریة فی دیر الزور. إضافة الى موقعین مهمین عادا تحت سلطة الدولة هما معلولا وقلعة الحصن. وأخیراً تفشی ظاهرة احتلال وتحویل وظیفة الکنائس او تدمیرها، ونسف الاضرحة وحالة الکنیس الواقع فی جوبر.


حلب تندثر، ربما تکون هذه العبارة الأکثر تعبیراً عن المأساة الرهیبة التی تعیشها المدینة على مستوى الدمار اللاحق بأبنیتها التاریخیة. ففی المدینة القدیمة ومحیط القلعة یبدو أن الأضرار إلى ازدیاد مع تجدّد المواجهات بشکل دوری ودخول عنصر جدید على المعرکة وهو الحفر تحت البناء والتفخیخ والنسف. بالنسبة إلى الأضرار فقد شملت سلسلة مواقع مدرجة على قائمة «الأونیسکو للتراث العالمی» کعدد من الجوامع کالخرفسیة، السلطان، بانقوسا والمیدانی، وعدد من الخانات والمدرسة العادلیة، اضافة الى مبنى السرایا، فندق الکارلتون، حمام یلبغا وثکنة هنانو. الکثیر من هذه الأضرار لا تعوض کونها تسببت بانهیارات جزئیة فی المبانی المذکورة أو تصدعات بنیویة من الصعب تجاوزها فی الترمیم. فی کل الأحوال فإن أی حصر تفصیلی للاضرار لم یحصل بعد، والوضع ینتظر انتهاء الأعمال العسکریة، لکن الأکید هو أن هناک مبانی فقدت إلى لأبد ولا یمکن تعویضها. قد تکون حلب أکثر المدن السوریة تضرراً جراء الحرب.


بالانتقال الى ریف حلب فالأضرار کبیرة بخاصة فی مواقع عدة من المدن المیتة، وتتراوح بین البناء المخالف فی المواقع وتکسیر الحجارة بهدف استخدامها، الهدم والحفریات غیر الشرعیة واستیطان المسلحین... لا سیما قلعة سمعان، حیث التعدیات کبیرة کالحفر والبناء فی حرم الدیر الشمالی، وبناء مخالف ملاصق لحائط البناء غربی، وأعمال تخریب وتکسیر حجارة الدیر الشمالی الشرقی بهدف البناء، تخریب قوس النصر، تخریب الفسیفساء التی کانت تغطی أرضیة الحمامات، وأضرار فی کنیسة المعمودیة.


أما فی بصرى (درعا) فقد تضرر وتهدم عدد من البیوت التقلیدیة والمبانی الأثریة إضافة إلى مخالفات بناء فی المنطقة الأثریة، وتضررت کنیسة القدیسین سرجیوس وباخوس، ولحقت أضرار بخندق القلعة-المسرح، وتهدمت أجزاء من جدران جامع یاقوت، وثمة أضرار فی الجدران الداخلیة والأسقف فی مدرسة أبو الفدا، فضلاً عن أعمال تکسیر وتخریب فی أکثر من موقع فی الریف الغربی لدرعا.
فی دیر الزور والحسکة، التعدیات تشمل عدداً کبیراً من التلال الأثریة المهمة، إضافة إلى موقعی دورا اوروبس وماری. ففی دورا اوروبوس دمرت الحفریات غیر الشرعیة، خصوصاً فی منطقة المدافن، وبعضها باستخدام الآلیات الثقیلة حوالى 80% من مساحة الموقع الإجمالیة، إضافة إلى تدمیر جدران بعض المعابد. أما فی ماری فقد جرى تدمیر عدد من الجدران والقیام بالتنقیب غیر الشرعی فی معابد داغان، عشتار وشمش، فضلاً عن سرقة جزء من سقف القصر الملکی مع بعض الهدم فی الجدران وأعمال تنقیب غیر شرعیة.


موقعان مهمان استعادتهما الحکومة السوریة وتبین فیهما حجم الضرر هما قلعة الحصن ومعلولا. فی قلعة الحصن تبین أن حجم الضرر على اهمیته محدود بالنسبة لما کان متوقعاً انطلاقاً من تقدیرات مبنیة على اساس بعض مشاهد القصف، لکن تجنب الجیش قصف القلعة مباشرة او اقتحامها جنبها دماراً کان یمکن أن یکون کبیراً جداً. بعد استعادة الموقع قامت السلطات المختصة بإزالة آثار وجود المسلحین داخلها بتنظیف الاقسام التی کانوا یستخدموها لمختلف الانشطة من سکن وطبخ وصناعة متفجرات وغیرها. وعند زیارة القلعة فی حزیران 2014 کانت اعمال الترمیم التی تقوم بها مدیریة الاثار والمتاحف قد قطعت شوطاً کبیراً جداً، وتتضمن رد قسم کبیر من الحجارة المتساقطة من الجزء السفلی لجدار الاصطبل المشرف على الخندق، اعادة الحجارة المتساقطة من بعض الفتحات فی الجدار الداخلی للسور الخارجی، واعمال ترمیم زخارف أقواس الرواق وواجهة قاعة الفرسان المتضررة...


أما فی معلولا فالأضرار کبیرة جداً، فالقسم الاکبر من البیوت والازقة فی البلدة القدیمة دمر بسبب الحریق، وتعرضت المدافن والمغاور للنبش والتخریب. بالوصول الى الکنائس والادیار فالاضرار فادحة، حیث نُهبت الایقونات والانیة اللیترجیة إضافة الى الحریق وتکسیر الصلبان. فی دیر القدیسة تقلا نهبت الایقونات وتعرضت الکنیسة للحرق، وفی دیر القدیسین سرکیس وباخوس دمرت الجدران الشرقیة والغربیة وانهارت القبة الرئیسیة. ولم تسلم کنائس: مار لاوندیس، القدیسین قوزما ودامیانوس والقدیسة بربارة من التدنیس والنهب. بعد انسحاب المجموعات المسلحة بدأت اعمال رفع الانقاض من الطرقات والمبانی تمهیداً لترمیم المدینة، ونُظفت الکنائس للصلاة فیها، ودُعّمت صخرة مار تقلا منعاً لسقوطها. أما مشروع الترمیم العام فهو مشروع قید الدرس ولم یبدأ بعد، لکنه واعد بالاهداف التی حددها.


تعرّض عدد کبیر من الکنائس فی سوریا إلى التدمیر الجزئی أو الکلی جراء القصف کما فی حمص، والبعض الاخر نُهب وحُرق کما فی معلولا أو نُسف بالکامل ککنیسة الشهداء الأرمنیة فی دیر الزور. لا أعداد دقیقة عن عدد الکنائس المتضررة وأنواع الضرر الذی تعرضت له، وتتراوح التقدیرات بین 40 و100، خصوصاً مع تمدد تنظیم «داعش» وتدمیره أو استیلائه على عدد من الکنائس فی دیر الزور والرقة. قد یبدو للوهلة الأولى أن الضرر الذی تعرضت له کنائس سوریا اقل بکثیر من باقی دور العبادة وتحدیداً المساجد، وهذا حتماً صحیح بمقارنة الارقام بالمطلق، اما نسبیاً فالموضوع یختلف کلیاً اذ یبلغ عدد الکنائس فی سوریا حوالى 400 کنیسة، فباعتماد تقدیرات الحد الأدنى، أی 40 کنیسة متضررة، تکون النسبة حولى 10%، بینما یبلغ عدد المساجد حوالى 18000، تضرر منها 1500، أی حوالى 8,3%.


بالتطرق إلى الاضرحة والمقامات الصوفیة فتشیر تقاریر مدیریة مدیریة آثار حلب الى تدمیر حوالى 90% منها، وهی کانت تنتشر فوق التلال الاثریة خصوصاً فی منطقة اعزاز کتل اعزاز، تل الشیخ ریح، تل دابق وتل اخترین اضافة الى تلک الواقعة على اطراف القرى. ففی منبج دُمرت کل الأضرحة الموجودة فی المنطقة بما فی ذلک ضریح الشیخ العقیلی المنبجی الذی یعتبر أهم مزار فی المنطقة، کذلک جمیع الأضرحة الموجودة حول الکنیسة البیزنطیة على طریق قلعة نجم، ودُرت ستة أضرحة مملوکیة الطابع واقعة أمام قلعة منبج، معروفة باسم أضرحة شهاب الدین. ولم تنج تلک الکائنة فی مناطق الباب، ناحیة الزربة، الحاضر، الاتارب، تل الضمان، مسکنة، الخنفسة ودیر حافر من التدمیر.
أما کنیس جوبر الواقع فی حی جوبر فهو یرقى إلى العصور الوسطى على اقل تقدیر ویحتوی على عدد کبیر من المقتنیات النادرة والمهمة کلفائف التوراة ومختلف الأوانی المتعلقة بطقوس العبادة، فقد تعرض للنهب على ید المسلحین الموجودین فی الحی، من دون تمکن مدیریة الاثار او ای طرف اخر من جرد المفقودات او المقتنیات التی تعرضت للضرر أو التلف نظراً للوضع فی المنطقة المحیطة به. کما أن وقوعه فی وسط حی جوبر حیث تدور مواجهات عنیفة بما فی ذلک القصف ادى إلى حصول «اضرار مادیة کبیرة» بحسب تعبیر تقریر المدیریة العامة للآثار والمتاحف، من دون تمکن المعنیین من تحدید ماهیة الاضرار بشکل دقیق نظراً إلى استحالة الوصول الى الموقع. إشارة إلى أن المشاهد المصورة التی بثتها بعض المجموعات من داخل الحی سیاسیة الطابع ولا تساعد فی الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالأضرار الحالة بالبناء. فی اواخر شهر آب بدأت الحکومة السوریة عملیة عسکریة لاستعادة السیطرة على جوبر ما یعنی ان مصیر الکنیس وغیره من الابنیة الاثریة والتراثیة لن یتحدد بشکل دقیق الى حین انتهاء العملیة وتمکن المعنیین من الدخول ومعاینة المبانی، وقد تکون المفاجأة سارة اذا تکرر سیناریو قلعة الحصن بشکل او بآخر، وکانت الاضرار محدودة نسبیاً، لکن لا معطیات تسمح الى الآن بالتکهن حول حالة المبنى.


أخیراً فإن عملیات التهریب الناتجة من اعمال النهب او التنقیب غیر المشروع، والتی تبقى ارقامها ان لناحیة عدد القطع او حجم العائدات المالیة تقریبیة غیر دقیقة وصعبة التحقق. لکن الأکید أن الظاهرة موجودة بقوة، وهناک مؤشرات موضوعیة علیها، کأعداد القطع التی صادرتها السلطات الرسمیة فی الداخل السوری، أو السلطات فی البلدان المجاورة، أو الصور الجویة لمواقع أثریة تظهر بوضوح شدید تحول شکل الموقع الى ما یشبه سطح القمر لضخامة عدد حفر التنقیب غیر الشرعی. لا شک فی أن الاتجار بالآثار، ابتداء من عملیات التنقیب، الى التهریب وصولاً الى الشراء او الاکتساب بأیة طریقة اخرى هی عملیة منظمة لا یمکن ان تتم من دون تنظیم شبکات لهذه الغایة فی ظل تشریعات دولیة ووطنیة غیر کافیة، وغض نظر متواطئ من قبل حکومات الدول التی تستورد هذه القطع الفریدة والتی لا علاقة لها بها تاریخیاً. والأکید أکثر هو أن المدیریة العامة للمتاحف والاثار بذلت وتبذل جهوداً عظیمة للحفاظ على هذه الثروة بالرغم من مواردها المادیة والبشریة المتواضعة.
* باحث لبنانی 

المصدر: جریدة الأخبار

رایکم
الأکثر قراءة