تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

هبوط أسعار النفط: حرب اقتصادیة أم عرضٌ وطلب؟

هبط سعر نفط غرب تکساس یوم الخمیس إلى ما دون عتبة الثمانین دولاراً للبرمیل، للمرّة الأولى منذ أعوام. ما بدا أنّه "انهیار" متواصل فی سعر النفط العالمی ولّد کثیراً من التحلیلات التی تُرجع هذه الحالة إلى قرار سیاسی – اتّخذته واشنطن وتنفّذه السعودیة - بضرب اقتصادیات روسیا وإیران عبر تقلیص إیراداتهما النفطیة. فهل من صحّة لهذه الادّعاءات؟
رمز الخبر: ۶۰۶۵۸
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۷:۲۵ - 18October 2014

هبوط أسعار النفط: حرب اقتصادیة أم عرضٌ وطلب؟

هبط سعر نفط غرب تکساس یوم الخمیس إلى ما دون عتبة الثمانین دولاراً للبرمیل، للمرّة الأولى منذ أعوام. ما بدا أنّه "انهیار" متواصل فی سعر النفط العالمی ولّد کثیراً من التحلیلات التی تُرجع هذه الحالة إلى قرار سیاسی – اتّخذته واشنطن وتنفّذه السعودیة - بضرب اقتصادیات روسیا وإیران عبر تقلیص إیراداتهما النفطیة. فهل من صحّة لهذه الادّعاءات؟
عامر محسن
 

هذا التعلیل "السیاسی" لأزمة الأسعار جاء فی العدید من التقاریر، روسیة وغربیة، ذکّرت بانهیار السوق النفطیة عام 1986 ودور المملکة السعودیة فی ضرب سعر النفط الخام عبر الرفع المفاجئ للإنتاج، وهو ما یعتبره العدید من المؤرخین الیوم استراتیجیة أمیرکیة التصمیم نجحت فی خنق الاتحاد السوفیاتی وإسقاطه، إذ کانت العائدات النفطیة مورده الأساسی للعملة الصعبة.

فی آذار الفائت، کتب ابن رونالد ریغان، مایکل، مقالة على شکل رسالة موجهة إلى الرئیس الحالی باراک أوباما، یذکّره فیها بفعل والده، راویاً أن الرئیس الأسبق قد ذهب إلى السعودیین فی الثمانینیات، وطلب منهم إغراق السوق. وقد أوصى ریغان الابن باعتماد استراتیجیة مماثلة ضد بوتین: "إن کان رئیسنا یرید جدیاً أن یبتعد بوتین عن أوکرانیا، وأن یفکّر مرتین قبل أن یباشر بإعادة بناء الإمبراطوریة السوفیاتیة، فعلیه اتباع قاعدة ریغان. علیه أن یضیّق الخناق الاقتصادی على روسیا الأم، وأن یفلسها، إلى أن تصیر عاجزة عن شراء ثیابها الداخلیة".
حقیقةً، فاجأت السعودیة السوق حین أعلنت، فی غمرة انزلاق الأسعار عن متوسطها الذی کان یفوق مئة دولار خلال السنوات الماضیة، عن حسومات فی عقود البیع، بمعنى أن نفطها سیعرض بأقل من السعر العالمی بدولارٍ واحد فی البورصة الآسیویة، و45 سنتاً فی أمیرکا؛ وهو ما أسهم فی التراجع السریع للأسعار الأسبوع الماضی إلى أدنى مستویاتها منذ أعوام، مع تقاریر تتنبأ باستمرار الانخفاض ودیمومته، وتتکلم على قعرٍ دون سبعین دولاراً قد یستقر علیه برمیل النفط الخام فی نهایة المطاف.

لماذا لسنا فی 1985؟

من الممکن عقد مقارنات تاریخیة بین الوضعیة الحالیة وسیناریوات سابقة، لکن لیس من بینها حالة التدخل السعودی فی السوق النفطیة فی أواخر 1985، الذی أدى إلى الانهیار الکبیر فی الأسعار. ما حدث عام 1985 هو أنّ إنتاج الـ"أوبک" ارتفع بأکثر من أربعة ملایین برمیل فی غضون أشهر، وقد جاء جلّ هذا الإنتاج الإضافی من السعودیة والکویت والإمارات.
ما زال النقاش التاریخی قائماً حول دوافع حلفاء أمیرکا إلى رفع الإنتاج وتجاهل حصص الـ"أوبک" المقرّرة، وما إذا کان القرار اقتصادیاً بحتاً أو استراتیجیة سیاسیة فی إطار الحرب الباردة، فرضتها واشنطن ونسقتها بین حلفائها. بغض النظر عن حقیقة الأمر، إنّ ما سمح للسعودیة أصلاً بأداء ذاک الدور، کان یتعلّق ببنیة معیّنة للسوق النفطیة فرضتها أحداث عقد السبعینیات، وهی لم تعد موجودة الیوم.
منذ ارتفاع أسعار النفط عام 1973، أدّت "أوبک" دور الناظم للسوق، وهو ما عنى فعلیاً أنّها حافظت على "احتیاط إنتاجی" بملایین البرامیل، أی قدرة إنتاج غیر مستخدمة تسمح بتنظیم التوازن بین العرض والطلب حینما تدعو الحاجة إلى ذلک. بحلول أوائل الثمانینیات، کان الاحتیاط الإنتاجی العالمی هو فعلیاً احتیاط "أوبک"، بینما المنتجون خارج المنظمة (کأمیرکا وکندا وروسیا) یضخّون النفط بالقدر الأقصى الذی تسمح به احتیاطاتهم، بغض النظر عن حالة الأسعار.
أکثر الاحتیاط الإنتاجی کان فعلیاً فی ید السعودیة التی خفضت تصدیرها النفطی إلى حدٍّ کبیر، منذ أواخر السبعینیات، بهدف الحفاظ على الأسعار. فقد کان هناک خلافٌ بین السعودیة و"أوبک" حول الوسیلة المعتمدة لضبط السوق: کانت "أوبک" تحبّذ التحکّم بالإنتاج وخفضه ورفعه عبر "حصص"، بینما السعودیة رفضت هذا الأسلوب وارتأت الدفاع عن سعرٍ معیّن بدلاً من التحکم بمستوى العرض، أی إنها کانت تعرض النفط فی البورصات العالمیة بالسعر الذی تعتبره مناسباً، ولا تنتج إلا بمقدار الطلب الذی یجیئها على أساس تسعیرها، وهو ما خفض الإنتاج السعودی من أکثر من 10 ملایین برمیل فی أواخر السبعینیات إلى أقل من ثلاثة ملایین برمیل عام 1985.
هذا الفارق بین القدرة الإنتاجیة والإنتاج الفعلی (وقد بلغ أکثر من ثمانیة ملایین برمیل فی حالة السعودیة أواسط الثمانینیات) یمثّل "القدرة الاحتیاطیة"، وهو ما جعل السعودیة فی موقعٍ یخولها ضرب سوق النفط بمجرد أن تقرر فتح مواسیر الإنتاج على آخرها، کما حصل فی أواخر 1985، وهو أیضاً ما سمح لها باستبدال الإنتاج الکویتی والعراقی معاً، عام 1990، رافعةً إنتاجها من جدید إلى حدود 9 ملایین برمیل یومیاً، وهو مستوىً حافظت علیه إلى الیوم. هذا ما سهّل على أمیرکا خوض حرب الخلیج عام 1991 بلا ضغوط من أسواق الطاقة، وعزل صدام حسین بالکامل والتخلی عن إنتاجه النفطی، والإعداد لحربٍ على العراق لفترةٍ تقارب السنة من غیر أن تتأثر السوق.
الیوم صار الوضع مختلفاً بالکامل، فالسعودیة لا تملک قدرة إنتاجٍ فائضة، وهی لن تقدر على إغراق السوق بالتصدیر الإضافی، بل إن العدید من الخبراء یرون أن إنتاج السعودیة فی الأعوام الأخیرة یماثل – أو یقارب – قدرتها القصوى على ضخّ النفط من أرضها. فی الحقیقة، لعل التغییر الأهم الذی طرأ على سوق النفط منذ التسعینیات یتمحور حول هذه النقطة تحدیداً: فقدان "أوبک" لهامش المناورة الإنتاجی الذی کانت تملکه (بعد سنوات من الخلاف على الحصص بین الأعضاء)، ما جعل تدخّلها فی سوق العرض ینحصر ضمن حدودٍ دنیا، فهی تعرف جیداً أنّها لن تتمکن من حیازة موافقة أعضاء المنظمة على خفوضات جدیة وضبط سلوکهم.

عناصر الإنتاج الیوم

إذا انطلقنا من واقع أن السعودیة لا تملک التأثیر نفسه على الأسواق الذی کانت تتمتع به فی الماضی، فما الداعی إلى انخفاض الأسعار على النحو الذی یجری حالیاً، وبوتیرة تفوق کثیراً الرکود النسبی الذی تشهده البورصة النفطیة عادة خلال فصل الخریف؟ إن کانت هناک وضعیة تاریخیة تشابه الحال الیوم، فهی فترة أواخر السبعینیات وأوائل الثمانینیات، حین دفع الارتفاع الکبیر فی الأسعار خلال العقد السابق إلى تضخّم الإنتاج الغربی، واستغلال موارد وحقول کانت تُعَدّ "صعبة تکنولوجیاً" أو غیر اقتصادیة فی ظلّ الأسعار المنخفضة. منذ أواخر السبعینیات، بدأ نفط آلاسکا وبحر الشمال بالدخول بقوّة إلى سوق النفط، لیعوّض النمو فی الطلب العالمی ویسبب "طفرة" فی العرض أدّت، تدریجاً، إلى کسر الارتفاع المستمر فی السعر العالمی وإدخال السوق فی رکودٍ استمرّ حتى نهایة الألفیة.
ارتفاع الأسعار منذ عام 2003 ولّد، هو الآخر، قفزةً مشابهة فی الإنتاج الغربی، وقد جاء جلّه هذه المرّة من "المصادر غیر التقلیدیة"، تحدیداً النفط الصخری والرمول النفطیة وباقی أصناف النفط الثقیل الذی کان یُعَدّ، إلى أمدٍ قریب، عصیاً على الاستخراج أو غیر اقتصادی. إثر استغلال هذه الموارد الجدیدة الذی أتاحته - إضافة إلى ارتفاع الأسعار - وسائل تکنولوجیة جدیدة تسهّل استخراج النفط الثقیل والعالق فی الصخور الجوفیة، انعکس مسار الإنتاج الأمیرکی، الذی کان یتناقص باطّراد منذ السبعینیات، حتى وصل إلى 5 ملایین برمیل یومیاً (عام 2008)، لیرتفع الیوم إلى ما یفوق 8.5 ملایین برمیل، والتوقعات تنبئ بأن یصل الإنتاج إلى أکثر من 9.5 ملایین برمیل یومیاً عام 2016. کلّ الإنتاج الإضافی، تقریباً، جاء من النفط "غیر التقلیدی".
هذا الارتفاع فی الإنتاج الأمیرکی، إضافة إلى عودة العراق إلى السوق، وظهور منتجین کبار جدد فی أفریقیا (کأنغولا)، ورفع التصدیر الروسی إلى مستوىً یقارب إنتاج الاتحاد السوفیاتی فی سنواته الأخیرة، هو ما أغرق السوق الیوم. وقد جاءت هذه العوامل مقرونة برکودٍ اقتصادی عالمی منع السوق الآسیویة (وهی السوق الوحیدة التی تتوسع بوتیرة کبیرة هذه الأیام) من النمو کما فی السنوات الماضیة وابتلاع الفائض.

اللعبة السعریة

ما لا ینتبه إلیه العدید من الکتّاب الذین یقصرون تحلیلهم للأسعار على النیات السیاسیة، هو أنّ تسعیر النفط ینطوی على معادلات معقّدة وحدود قد یؤدی تجاوزها إلى نتائج عکسیّة. هناک دائماً عتبات سعریّة تؤدی إلى تحوّلات بنیویة فی السوق إذا ما تأرجح سعر النفط بشکل کبیر، صعوداً أو نزولاً.

أهمّ هذه العوامل یتعلّق بکلفة استخراج النفط الثقیل، فإن کانت کلفة استخراج برمیل النفط فی السعودیة لا تتعدى 3 دولارات، فإنّ تحفیز النفط العالق فی الصخور الجوفیة، أو تسخین الرمول النفطیة لتسییلها، هی مهمات مکلفة للغایة، وتعتمد على عملیة صناعیة تستهلک الکثیر من الطاقة والموارد. لهذا السبب، إنّ انخفاضاً حادّاً – ومستمراً - فی أسعار النفط قد یؤدی إلى إخراج هذا الإنتاج من السوق وانهیار عددٍ کبیر من شرکات الاستخراج التی تموّل مشاریعها عادة عبر الدین والقروض، والتی افترضت أسعاراً للطاقة تتجاوز مئة دولار.
بحسب شرکة "ماکنزی" للاستشارات، إنّ أغلب منتجی النفط الصخری فی أمیرکا یحتاجون لسعرٍ یفوق 75 دولاراً للبرمیل لإبقاء مشاریعهم رابحة. وتقول مصادر فی صناعة الطاقة إنّ تقلیص الاستثمار سیبدأ، إلى جانب إیقاف الآبار القلیلة الإنتاج، ما إن تهبط الأسعار دون عتبة 85 دولاراً. لکن قبل أن یصل هذا التأثیر إلى أمیرکا، إنّ أول من سیشعر بالأزمة سیکون النفط الکندی الثقیل. مشکلة النفط الکندی "غیر التقلیدی" لا تقتصر على کلفة إنتاجه العالیة، بل کلفة نقله أیضاً: إذا کان نقل النفط من الخلیج العربی یزید 3 دولارات على سعر البرمیل، فإنّ نقل النفط من غرب کندا یستلزم ما بین 12-15 دولاراً. هذا یعود أوّلاً إلى أنّ الإنتاج یجری فی مناطق داخلیة بعیدة عن السواحل وموانئ التصدیر، وثانیاً، إلى أنّ النفط الکندی المستخرج من الرمول والاسفلت هو ثقیلٌ وکثیف، یستلزم قدرة ضخّ کبیرة حتى یسافر لآلاف الأمیال فی الأنابیب وصولاً إلى خلیج المکسیک أو الساحل الشرقی للولایات المتحدة. أخیراً، إنّ هذا النفط یباع أصلاً بسعرٍ أدنى من غیره – بسبب نوعیته الردیئة – وهذا "الخصم" یزید بشکلٍ کبیر کلما ضعف السوق وزاد العرض (وصل إلى ما یقارب عشرین دولاراً على البرمیل العام الماضی).
بهذا المعنى، هناک حدودٌ معیّنة لانخفاض الأسعار یبدأ بعدها الإنتاج بالتراجع، بدءاً من الحقول الأکثر کلفة والأبعد عن أقالیم الاستهلاک، ما یقلب الدینامیة من جدید ویخفف الضغط على السوق. لهذا السبب، یعتقد بعض الخبراء أنّ هدف السعودیة هو إبقاء النفط ضمن "حدودٍ مناسبة"، تحدّ من زیادة العرض من غیر أن تهزّ الأسواق وتهدد شرکات الطاقة فی الغرب.
فی الثمانینیات، کانت استراتیجیة السعودیة تقوم على الدفاع عن السعر، وهو ما تخلّت عنه حین رفعت مستوى التصدیر بشکلٍ کبیر فی أواخر 1985. الیوم، انتقلت السعودیة إلى الدفاع عن الحصة السوقیة فهی، عبر التنزیلات على عقود التصدیر، تحجز مُشترین مضمونین لإنتاجها الضخم. فی الثمانینیات، کانت السعودیة تقول للمنافسین إنها قادرةٌ على قهرهم عبر احتیاطها الإنتاجی، إذ لم یؤثر انهیار الأسعارعلى عائداتها الإجمالیة (انخفض السعر إلى النصف تقریباً، لکن الإنتاج السعودی، بدوره، قد تضاعف). رسالة السعودیة الیوم، إلى الأسواق والمنتجین، هی أنّ نفطها هو الأکثر تنافسیة فی العالم، وأنها آخر من یتأثر بهبوط الأسعار، وهی - إذاً - ستحرص على بیع نفطها أوّلاً بغض النظر عن حالة السوق.

المصدر: جریدة الأخبار

رایکم
الأکثر قراءة