تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

من أفغانستان إلى العراق وسوریا: فلسطین أو البوصلة مشبوهة

فی حرب تموز 2006 على لبنان، بدأت أولى مفاعیل انحراف بوصلة النضال، ولم یکن العامل الطائفی وحده المسؤول المباشر عن صدور فتاوى وهابیة تحرّم الدعاء للمقاومة اللبنانیة المتمثلة فی حزب الله بالنصر على العدوان الاسرائیلی، لأننا سوف نعثر على ما هو أقرب الى «العار» فی العدوان الاسرائیلی على غزة فی 2008 ـ 2009
رمز الخبر: ۶۰۰۲۲
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۲۰:۲۲ - 24September 2014

من أفغانستان إلى العراق وسوریا: فلسطین أو البوصلة مشبوهة

منذ صوّب عبد الله عزّام الفلسطینی مسدّسه ناحیة أفغانستان بدعوى محاربة النظام الشیوعی، لا تزال بوصلة جموع متناسلة من المقاتلین تشیر الى کل مکان فی العالم باستثناء فلسطین، وکأنما صمّم «الجهاد الأفغانی» لوظیفة محدّدة.

فؤاد إبراهیم

وفیما أعادت الثورة الإیرانیة الروح إلى القضیة المرکزیة للعرب والمسلمین عام 1979 حین أغلقت السفارة الاسرائیلیة وفتحت مکانها أبواب سفارة فلسطین، وخصّصت آخر جمعة من شهر رمضان من کل عام لإحیاء یوم القدس العالمی، وأرسیت حینذاک أسس المقاومة الفلسطینیة المسلّحة، کانت الولایات المتحدة وحلفاؤها فی الشرق الأوسط وخصوصاً السعودیة ودول خلیجیة وباکستان تعمل على فبرکة قضیة بدیلة، هی محاربة النظام الشیوعی فی أفغانستان، البلد الذی لم یکن حاضراً فی أدبیات الاسلامیین من ذی قبل، ولا کان مدخلاً رئیساً ولا فرعیاً فی أی لحظة لمشروع التغییر فی الأمة.

بل على العکس من ذلک، وجد العرب والمسلمون أنفسهم أمام خدعة کونیّة تجرى فصولها على الأرض الأفغانیة ویشارک فیها من لا حظ لهم فی المعرفة والتجربة والماضی النضالی، فکانوا مجرّد أدوات تدیرها أجهزة الاستخبارات المرکزیة الأمیرکیة والسعودیة والباکستانیة وکان المال السعودی والخلیجی یغدق بسخاء على مشروع الحرب، بکل أدواتها: العسکریة، الفکریة، الاعلامیة، السیاسیة، والاقتصادیة... فصدّق کثیرون أن أفغانستان هی المعرکة الفاصلة ولیست فلسطین، التی توارت فی وعی کثیرین وشارک فیها بعض الفلسطینیین. هل کان محض صدفة أن «رائد الجهاد الأفغانی»، ورمزها الأکبر فلسطینی الهویة، وهو عبد الله عزّام؟ وهل محض صدفة أن یکون کبار رموز ومنظّری تنظیم «القاعدة» هم من الفلسطینیین أمثال أبو محمد المقدسی (عصام البرقاوی) وأبو قتادة الفلسطینی (عمر محمود عثمان)، من الذین نظّروا إلى الجهاد فی العالم؟ وبقیت فلسطین خارج نطاق اهتمام المجاهدین العرب فی أفغانستان.

حین حقق الجهاد الأفغانی غایاته الأمیرکیة، بانسحاب القوات السوفیاتیة من أفغانستان وتالیاً تفکّک الاتحاد السوفیاتی عام 1989، لم ینتقل المجاهدون العرب إلى أرض الرباط الحقیقیة فلسطین، بل أوجدوا لأنفسهم أرض رباط أخرى، وتوزّع «أهل الثغور» الجدد على بلدانهم وبلدان لم یطأها من قبل لبدء سیاحة الجهاد، ومنهم من وصل الى الشیشان وقرغیزستان، وتحوّلوا إلى أبطال.

ما یلفت أن فلسطین التی حضرت لأول مرة فی خطاب القاعدة، على لسان زعیمها السابق أسامة بن لادن، حین تحدث فی شریط مصوّر بثّته قناة «الجزیرة» فی 7 أکتوبر 2001 وقال: «اقسم بالله العظیم أن أمیرکا لن تحلم بالأمن قبل أن تنعم فلسطین به»، لم تعقبه خطوات من أی نوع تفید بتحوّل فی وجهة «القاعدة» أو أی من تفریعاتها، بل على العکس، لحظنا بعد سقوط نظام صدام حسین فی العراق فی نیسان 2003، أن فلسطین غابت بصورة کلیّة، وحضر الخطاب الطائفی بشراسة غیر مسبوقة، وصار الجدل یدور داخل قیادة ومنظرّی «القاعدة» لیس حول بوصلة الجهاد إن کانت نحو فلسطین أم نحو مکان آخر، وإنما حول جواز قتل المدنیین أم حرمته، بناء على نظریة «التترّس» بالعدو. وکان من رأی أبو مصعب الزرقاوی، القائد المیدانی لتنظیم القاعدة فی بلاد الرافدین (قتل فی حزیران 2006)، أن لا فرق بین مدنی وعسکری فی العراق، وذلک من منطلق طائفی.

یکاد النظام الرسمی العربی أن یکون صادقاً فی خصومته للقضیة الفلسطینیة

وکما کانت أفغانستان، تحوّلت العراق الى أرض رباط، انجذب الیها «المجاهدون» القدامى والجدد من تنظیم «القاعدة»، فیما تحمّل مشایخ الوهابیة التمویل والتحریّض، وبقیت مطحنة الحرب تستنزف الأموال والرجال والعقول على مدى سنوات، وکل ذلک یجری على حساب القضیة الفلسطینیة التی باتت على هامش الاهتمام الشعبی والرسمی، ولم تعد ضمن أولویات «الجهادیین».

فی حرب تموز 2006 على لبنان، بدأت أولى مفاعیل انحراف بوصلة النضال، ولم یکن العامل الطائفی وحده المسؤول المباشر عن صدور فتاوى وهابیة تحرّم الدعاء للمقاومة اللبنانیة المتمثلة فی حزب الله بالنصر على العدوان الاسرائیلی، لأننا سوف نعثر على ما هو أقرب الى «العار» فی العدوان الاسرائیلی على غزة فی 2008 ـ 2009، حیث صدرت فی کانون ثانی 2009 فتاوى من أعلى المراتب فی المؤسسة الدینیة الرسمیة، وعلى وجه الخصوص المفتی العام للمملکة السعودیة الشیخ عبد العزیز آل الشیخ ورئیس مجلس القضاء الاعلى الشیخ صالح اللحیدان بوصف التظاهرات الشعبیة لمناصرة غزة فی یوم الغضب بأنه «عمل غوغائی»، ویدخل بحسب اللحیدان فی «باب الفساد فی الأرض». للإشارة فحسب، فإن اللحیدان هو نفسه صاحب فتوى جواز قتل الثلث من أجل أن ینعم الثلثان، فی تأییده القتال فی سوریا لإسقاط النظام.

الأنکى أننا بتنا أمام حالة غیر مسبوقة إذ ینبری کتّاب عرب، وفی الغالب من الدول التی خرج منها «الجهادیون» الى أفغانستان ثم العراق وسوریا، لنشر مقالات تدین المقاومة وتبرّر العدوان، الى حد أن وزارة الخارجیة الاسرائیلیة أعادت نشر المقالات على موقعها الالکترونی. الأدهى فی العدوان الاسرائیلی على غزّة فی تموّز 2014 أن قائمة «العار» کبرت واللهجة أصبحت أشدّ وضوحاً واستفزازاً لیس فی الادانة والتبریر ولکن هذه المرّة فی التحریض، بنبرة تشفی وحقد، على استمرار العدوان وزیادة وتیرته.

فی مقلب «الجهادیین» من الأطیاف المتعاقبة من الجهاد الافغانی ومروراً بالعراق وصولاً الى سوریا، بدا ما یشی بأکثر من صمت وأقرب الى التواطؤ، فأولئک الذین یظهرون الوحشیة فی تحقیق «البطولات» النادرة فی تاریخ البشریة، والمستعدین لتفخیخ أجسادهم وتفجیرها فی کل شیء ومن أجل أتفه الأشیاء، وإشاعة الرعب فی قلوب خصومهم، لم یرف لأی منهم جفن وهو یرى مشهد أشلاء أطفال غزّة تتطایر بفعل الصواریخ الإسرائیلیة، ولا للوحشیة الصهیونیة التی لا تضاهیها سوى وحشیة داعش فی سفک الدماء، وهدم الأحیاء على رؤوس ساکنیها، وتحویل الحیاة الى جحیم لا یطاق.

غاب الداعشیون والقاعدیون وکل تنظیمات السلفیة الجهادیة عن غزّة وفلسطین، وحرصوا على الحضور الکثیف فی أماکن أخرى. حجة الأرض التی کانوا یلوذون بها فی تبریر عدم «مجاهدة» العدو الاسرائیلی سقطت فقد باتوا مجاورین لفلسطین المحتلة بعد سیطرتهم على مناطق داخل سوریا، وحجة السلاح الذی یصل الى داخل فلسطین المحتلة أیضاً سقطت، فلدى کل من هذه التنظیمات ما یکفی من الصواریخ التی تضرب العمق الاسرائیلی وتهدّد وجوده... ولکن لم تفعل، لماذا؟ یختصر «داعش» موقفه بدهسه علم فلسطین، ویبرر ذلک بأنه لا یعترف بحدود سایکس بیکو، وبزعم فارغ أن معرکته مع الاسرائیلی مؤجّلة الى حین تطهیر الأمة من العدو القریب، بحسب تغریدات للقیادی فی «داعش» الشیخ أبو القاسم الأصبحی فی 8 تموز الماضی.

ترقّب کثیرون من المتعاطفین والخصوم وصول طلائع مقاتلی داعش الى غزّة لمناصرة أهلها فی مواجهة العدوان الاسرائیلی، ولکن تلک الطلائع لم ولن تصل لأن لها مهمة تقوم بها فی مکان آخر، ولیست معنیّة بالجهاد فی فلسطین.
یبرر «داعش» تقاعسه عن الجهاد فی فلسطین بأن « القدس لن تتحرر حتى نتخلص من هؤلاء الأصنام...» فی إشارة الى الشیعة، وأمراء الخلیج، والتیارات اللیبرالیة والعلمانیة باعتبار عناصرها من المرتدّین والمنافقین وأنهم أشد خطراً من الکافرین الأصلیین، وأن الخلیفة الأول أبا بکر «قدّم قتال المرتدین على فتح القدس التی فتحها بعده عمر بن الخطاب».

السؤال: لماذا لم یکن الجواب ذاته حاضراً حین بدأ النفیر الى الجهاد فی أفغانستان؟ وکان من الأمراء الشرعیین فی داعش من انخرط فی الجهاد الافغانی قبل أن ینتقل الى العراق ویلتحق بتنظیم القاعدة فی بلاد الرافدین تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوی ثم فی تنظیم «الدولة» تحت إمرة البغدادیین، أبو عمر ومن ثم أبو بکر. لنتذکر أن فی أجواء العدوان أیضاً یلتزم النظام الرسمی العربی الصمت، فیما یغمر کبار مسؤولی الکیان الاسرائیلی الساحة الاعلامیة بتصریحات استفزازیة، تتحدث عن غطاء عربی للعدوان على غزّة، وآخرها تصریح رئیس الکیان السابق شمعون بیریز فی مؤتمر صحافی فی بئر السبع فی 31 تموز الماضی بأن هذه هی الحرب الأولى التی تشنها تل أبیب و«غالبیة العرب معها»، مشیراً إلى أن «العالم العربی یمارس العزلة على المقاومة الفلسطینیة». تصریح لم یکن وارداً قبل عشر سنوات ولکنّه الیوم بات حقیقة، بل إن الحدیث عن تمویل سعودی إماراتی للعدوان على غزة بات مقبولاً وإمکانیة حصوله واردة.

لم تحدث تلک التحوّلات دفعة واحدة، ولم یکن انحراف البوصلة الى مکان آخر غیر فلسطین جاء بفعل تزاید الاختلال فی موازین القوى بین الکیان الاسرائیلی والدول العربیة، بل الصحیح والمؤلم أن ثمة إرادة عربیة رسمیة بـ«اقتلاع» فلسطین من وعی ووجدان ونضال هذه الأمة، ولذلک أرید تبدیل الأولویات بعد ثورات الربیع العربی، وتوجیه «أهل الثغور» الافتراضیین الى العراق وسوریا ولبنان والیمن، وأن یکون العنصر الفلسطینی بارزاً فی قوافل المهاجرین الى «أراضی الرباط» البدیلة. صنّعت ثقافة «الجهاد» المستمدة من مصادرها السلفیة الوهابیة شخصیة فصامیة، لا تشعر بأدنى لائمة للذات على انخرطها فی القتال فی القلمون السوری أو الأنبار العراقی فی وقت تسقط غزة من حسابات «الجهادیین».

باختصار، إننا نقترب من لحظة تاریخیة حاسمة تسقط فیها الذرائع وتتجلى الحقیقة الساطعة، فقد نضبت آلة التبریر لدى النظام الرسمی العربی حتى یکاد أن یکون صادقاً فی خصومته السافرة للقضیة الفلسطینیة، والیوم تتناثر ذرائع تنظیمات سلفیة جهادیة انخرطت فی مشاریع الحروب الاقلیمیة بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق وصولاً الى سوریا، وتبیّن أن أجندتها الجهادیة مصمّمة لغیر وجهة، فلا ذریعة الجبهة المجاورة لفلسطین قائمة، إذ کانت تردد فی القیام والقعود أن حزب الله کان یحول دون السماح للمجاهدین بمقاتله العدو حیث یسیطر على الجنوب اللبنانی، ولا ذریعة نوعیة السلاح المتوفر یسمح بتوجیه ضربات موجعة مقبولة، إذ أصبح بحوزة «داعش» وغیره صواریخ بعیدة المدى، وکذلک ذریعة العدّة والعتاد... فکل الذرائع سقطت وبقیت غزّة تشهد على من مع فلسطین ومن ضدّها.

مصدر: جریدة الأخبار

وکالة الدفاع المقدس للأنباء غیر مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا یعبّر إلا عن وجهة نظر کاتبه

رایکم
الأکثر قراءة