ابراهیم الأمین
لم یکن منّا من یحتاج إلى نائب رئیس أمیرکا حتى یعرف حقیقة ما تقوم به ترکیا ودول خلیجیة ضد سوریا منذ 40 شهراً. لکن کلام المسؤول الأمیرکی، فی جامعة هارفارد، فیه مسؤولیة من لا یقدر على الکذب أمام بعض نخب المؤسسة الأمیرکیة. هؤلاء الذین لا یحتاجون أیضاً إلى من یشرح لهم أن من یقودون أعنف حرب دمویة ضد الشعب السوری، لیسوا أکثر من جماعات متخلّفة تحکم بلادها بالحدید والنار، وتسرق ثرواتها وتنهبها، وتفتح بلادها لکل خارج محتل أو مستعمر.
ولیس صدفة إن إمارات وممالک القهر فشلت، رغم کل ثرواتها، فی استقطاب کتلة مهمة من نخب کبریات الجامعات الأمیرکیة للعمل فی بلادها. تعرف هذه النخب أن المسألة لا تتعلق فقط بالعائدات المالیة، وأن الصحراء تحت حکم هؤلاء القتلة المتخلفین لا تنتج سوى الغبار.
القصد أن بایدن، إن أراد أن یتسلى مع إعلامیین أو سیاسیین أمیرکیین أو من بلادنا، یمکنه أن یتحدث لساعات طویلة عن النظام الدیکتاتوری وعن الحلفاء من أهل الاعتدال. لکنه، بالتأکید، لا یجرؤ على فعل ذلک أمام من یملک عقلاً فیه مساحة کبیرة من الاستقلالیة ومن المهنیة العلمیة. وإن کانت تنقصه المبادرة لمنع التزویر القائم. لکن واقع الحال، أن بایدن تحدث أمام مستمعین لا یحتاجون إلى تقاریر من وکالات الاستخبارات لتشرح لهم ما الذی یجری فی منطقتنا. هو تحدث لأنه شعر بأن علیه، ولو لدقائق، تبریر ما تقوم به إدارته من قیادة غزو جدید. وهو تبریر یحتاج إلى قول الأمور کما هی. ما یعنی أن یقول لهم، صراحة، إن حلفاء أمیرکا ــــ لم یعترف بدور بلاده فی تشجیع هؤلاء ــــ أرادوا منذ الیوم الأول تدمیر سوریا، وإن الحقد أعماهم حتى أنفقوا مئات ملایین الدولارات ثمن عشرات الآلاف من أطنان الأسلحة لإسقاط الرئیس بشار الأسد. وما لم یفصله بایدن، هو کیف أن هؤلاء الحلفاء کانوا یعلمون أن کل دعمهم إنما یذهب إلى الجهات التکفیریة الفعالة الیوم. وما لم یشرحه بایدن، هو عن الخلفیة الفکریة والعقائدیة التی تحکم متخلفی إمارات القهر، والتی ینتسب إلیها التکفیریون.
وربما لو فعل ذلک، لسار على درب المحافظین الجدد، الذین یرون المشکلة فی الإسلام نفسه.
بعد ما قاله، لم تعد مهمة التوضیحات، ولا الاحتجاجات، ولا الاعتذارات. لقد «بقّ» الرجل البحصة ونقطة على السطر. وهو ثبت معادلة سیاسیة، نعرف أنها لن تغیر شیئاً فی موازین القوى الفعلیة على الأرض، ولن تثنی المجرمین عن مواصلة دعم زملائهم فی القتل، ولن تعدّل فی طبیعة برنامج قوى التحالف التی لا ترید للوحش التکفیری أن یخرج عن الحدود المرسومة له، والتی ترید له أن یعود إلى الدائرة التی وضع فیها، وإطلاق العنان لکل فنونه فی الجنون والقتل ضد سوریا وإیران وحزب الله، وهو الهدف المستمر إلى أن یسقط هذا المشروع من جدید.
لکن لمن یختلط علیه الأمر، ما الذی یحصل؟
الیوم، تشارک دول الخلیج العربیة فی عداد التحالف الدولی. لکنها لم تتوقف بعد عن توفیر عناصر التمویل المادی والبشری والتسلیحی لمجموعات الإرهاب. ولم تبادر إلى أی تعدیل حقیقی فی إعلامها وخطابها السیاسی، وهی تکتفی بعنوان عام یرفض الإرهاب. فیما تمارس المزید من الابتزاز الدموی على السوریین. وها هم أکراد عین عرب یعیشون تحت رحمة بازار تفرضه السلطنة العثمانیة التی تخیّرهم بین العمل تحت إمرتها، والتحالف مع بقیة القتلة من «جیش حر» و«جبهة نصرة» وخلافه، وبین أن یکونوا ضحایا إرهاب «داعش». وها هو الجیش الترکی الذی یقوم بکل الأعمال لمنع اقتراب جندی سوری من الحدود مع ترکیا، یراقب من دون أی حرکة رفع «داعش» لعلمها على بعد مئات الأمتار من الحدود الترکیة. وأنقرة إن قررت التدخل، ترید أن یخرج السوریون فی تظاهرات تطالبها باحتلال بلدهم.
على أن الأمر الآخر یتعلق بالموقف الأمیرکی الذی لا یمکن اعتباره تبریراً مباشراً لفشل برنامج قوى التحالف فی مواجهة «داعش». فما حصل منذ انطلاقة الغارات الجویة، لم یحقق الأهداف الکفیلة بالقول إننا نقترب من مشهد میدانی جدید. إذ بینما یفترض أن تکون الغارات قد أنهکت التنظیم، کان الآلاف من عناصره یخوضون معرکة واسعة وقاسیة ویبسطون سیطرتهم على عشرات المدن والبلدات والمزارع ویدخلون إلى عین عرب، على بعد مئات الأمتار من الحدود مع ترکیا. وهم عندما یقومون بعمل من هذا النوع، لا یتحرکون فی السر، ولیس لدیهم أنفاق أو عملیات تمویه استثنائیة. بل یهاجمون بالمئات والعشرات، وضمن مواکب وقوافل عسکریة تتیح لأی رقابة جویة التعرف إلیها وضربها لو کان هناک قرار جدی. لکن الحقیقة، أن قوى التحالف لن تعمد إلى توجیه ضربات یستفید منها الرئیس الأسد، وبما أنه یصعب ــــ کما قال أوباما نفسه ــــ توقع قیام «جبهة معتدلة» تحل محل «داعش»، فإن البدیل الواقعی هو غارات عشوائیة تصیب سوریا أرضاً وشعباً وبنى تحتیة... إلى أن یقضی الله أمره.