عبد الله سلیمان علی
مفاجأة من العیار الثقیل تطرأ على المشهد "الجهادی" فی سوریا. "أحرار الشام" تقوم بمراجعات جدیة للتخلی عن منهج السلفیة "الجهادیة"، وفی اجتماع عاصف قبل مقتلهم بأیام، زعیم "جبهة النصرة" أبو محمد الجولانی یوبّخ قادة "أحرار الشام" ویصر على استکمال مشروعه فی السیطرة على ریف إدلب رغم معارضتهم له.
تتکشف هذه الحقائق بینما تسیر "جبهة النصرة" قدماً فی إحکام سیطرتها على ما تبقى من قرى الریف الإدلبی، فی الوقت الذی یحاول فیه زعیم "جبهة ثوار سوریا" جمال معروف بمساعدة حلفائه التجهیز لهجوم مضاد یسترد فیه ماء وجهه.
وعلمت "السفیر" من مصادر مقرّبة من "أحرار الشام" أن کوالیس الحرکة شهدت، خلال الأسابیع التی سبقت مقتل قادتها فی 9 أیلول الماضی، نشاطاً مکثفاً من قبل بعض مشایخها وعلى رأسهم أبو یزن الشامی، هدف إلى إجراء مراجعات دینیة وفقهیة تتناول منهج الحرکة وسلوکها، انتهت فیما انتهت إلیه بتوصیات رفعت إلى قیادة الحرکة بضرورة التخلی عن منهج السلفیة "الجهادیة" لأن "قعدنة" (أی ربطها بتنظیم "القاعدة") "الثورة السوریة" لم یجرّ علیها سوى المفاسد والأضرار.
وما یؤکد ما ذکرته المصادر أن أبا یزن الشامی کان بالفعل قبل مقتله بأیام، قد اعتذر من الشعب السوری لأن الحرکة جرّته إلى معارک لا طائل منها. وقال "أنا کنت سلفیاً جهادیاً، وحُبست على هذه التهمة والیوم أستغفر الله وأتوب إلیه".
وفی ذلک الوقت لم یفهم من کلام الشامی سوى أنه یعبر عن رأیه الشخصی ولم یحمّل أکثر من ذلک. وکانت "السفیر" أشارت إلى ذلک فی حینه. غیر أن المعطیات الجدیدة تؤکد أن هذا الکلام کان تعبیراً عن تغیرات جذریة طرأت على عقیدة "أحرار الشام"، وأن المراجعات المشار إلیها وضعت موضع التنفیذ.
وفی المقابلة التی أجراها منذ أیام قائد "لواء أهل السنة" التابع إلى "أحرار الشام" حسام سلامة بخصوص القتال بین "جبهة النصرة" وبین "جبهة ثوار سوریا"، حیث کان ضمن اللجنة المکلفة بالتوسط بینهما، کان لافتاً أنه اتهم جمیع فصائل "السلفیة الجهادیة" بأنها تتضمن "غلواً" فی صفوفها، من دون أن یستثنی أی فصیل، وهذا یعزز من أن "أحرار الشام" لم تعد تعتبر نفسها تنتمی إلى هذا التیار، وهو انقلاب کبیر ستکون له تداعیات على علاقة الحرکة بالفصائل الأخرى، سلباً أو إیجاباً.
وقد تکون أولى هذه التداعیات، ما ذکره لـ"السفیر" مصدر مطلع على کوالیس "جبهة النصرة"، من وجود توتر کبیر بین "النصرة" وبین "أحرار الشام" قد لا یطول الوقت قبل أن یطفو على السطح، مشیراً إلى أن قادة "أحرار الشام" اجتمعوا، قبل مقتلهم بأیام، مع الجولانی لمناقشة العلاقة بینهما ومستقبل الصراع فی سوریا ومشاریع کل طرف.
وکان الاجتماع عاصفاً کما وصفه المصدر، غلب فیه على الجولانی الغضب على غیر عادته، وشهدت المناقشات بین الطرفین مشاحنات عنیفة، حتى أن الجولانی خرج عن طوره أکثر من مرة ووبّخ "قادة الأحرار" على تراجعهم عن نهج "القاعدة"، ملمحاً إلى التخوین والخذلان. ویؤکد المصدر أن الجولانی أبلغ محاوریه فی هذا الاجتماع نیته استکمال مشروعه بالسیطرة على ریف إدلب وتطبیق "الشریعة الإسلامیة" فیه، وعندما عارضوه فی ذلک، هدد بأن الحرب ستکون بینه وبین کل من یقف بوجهه. وانتهى الاجتماع لیقتل "قادة الأحرار" بعده بأیام فقط.
ورغم أن العلاقة بین "أحرار الشام" وبین "جبهة النصرة" غلب علیها التقارب والتحالف، إلا أنها مرت بعدة مفاصل. حیث انتقدت "أحرار الشام" مبایعة الجولانی لزعیم "القاعدة" أیمن الظواهری فی نیسان العام 2013، واعتبرت أن هذه المبایعة لا تخدم إلا النظام السوری. ولکنها بعد استفحال الخلاف بین تنظیم "الدولة الإسلامیة فی العراق والشام"-"داعش" وبین "جبهة النصرة" وقفت إلى جانب الأخیرة، بل یمکن القول إنه لولا "أحرار الشام" لما استطاعت "النصرة" من تجاوز مرحلة الموت السریری التی أصیبت بها فی الأشهر الثلاثة التی أعقبت خلافها مع زعیم "داعش" أبو بکر البغدادی، حیث انشق عنها غالبیة مقاتلیها کما سیطر عناصر "داعش" على جمیع مقارها ومستودعات أسلحتها. فوقفت "أحرار الشام" إلى جانبها بتوصیة مباشرة من أبی خالد السوری صدیق الظواهری ومندوبه لحل الخلاف بین "داعش" و"النصرة". وبعد تعافی "النصرة"، واستعادة جزء من قوتها، بقیت متحالفة مع "أحرار الشام"، وخاضا معاً العدید من المعارک سواء ضد الجیش السوری أو ضد "داعش" إلى أن حصل الخلاف الأخیر.
وثمة روایة یتداولها مقربون من "أحرار الشام" عن نصیحة وجهها الظواهری إلى الجولانی بفک ارتباطه مع "القاعدة"، وأن الظواهری طلب من صدیقه أبی خالد السوری محاولة إقناع الجولانی بهذا الانفکاک والانضمام إلى "أحرار الشام" أو "الجبهة الإسلامیة". ویؤکد ناقلو الروایة أن جواب الجولانی کان صاعقاً، حیث قال لأبی خالد السوری "أن الشیخ ـ یقصد الظواهری ـ بعید عن واقع الشام".
وبغض النظر عن صحة هذه الروایة أو عدم صحتها إلا أن تداولها یشیر إلى أن التوتر بین "أحرار الشام" و"النصرة" بدأ بالفعل یطفو على السطح. ویعزز من ذلک لجوء "أحرار الشام" إلى اتخاذ موقف محاید فی الصراع الأخیر بین "جبهة النصرة" و"جبهة ثوار سوریا"، حیث أصدرت بیاناً انتقدت فیه القتال الدائر وشددت على عدم مشارکتها به، طالبة من الطرفین الاحتکام إلى "محکمة شرعیة" مستقلة.
ویفرض انکشاف هذه الحقائق إعادة النظر فی حادثة مقتل قادة "أحرار الشام" على ضوء المستجدات التی ذکرتها مصادر "السفیر"، وتفاصیل الاجتماع العاصف مع الجولانی الذی سبق مقتلهم بأیام، وبالتالی البحث عن دور لـ"جبهة النصرة" فی هذه الحادثة، وهو السیناریو الوحید الذی لم یجر التطرق إلیه من قبل، نظراً للعلاقة الوطیدة التی کانت تجمع بین الطرفین من دون أن یکون قد تسرب شیء عن التوتر الناشئ بینهما.
وتؤکد معلومات متقاطعة من مصادر مختلفة أن الجولانی لم یکن قادراً على استکمال مشروعه فی السیطرة على ریف إدلب لولا مقتل قادة "أحرار الشام"، لأن وجودهم، والمکانة المعنویة التی یتمتعون بها، کانا یشکلان عقبة أمامه، فاستغل مقتلهم کی یسیر فی مشروعه ویسیطر خلال الأسبوع الماضی على جبل الزاویة، وذلک بعد أن سیطر فی وقت سابق على ریف جسر الشغور، ویهدد کذلک بالسیطرة على الریف الجنوبی.
ویقوم مقاتلو "جبهة النصرة" حالیاً بمداهمة القرى والبلدات التی سیطروا علیها، وتفتیش معاقل "جبهة ثوار سوریا" و"حرکة حزم" حیث اکتشفوا العدید من مستودعات الأسلحة ومخازن المواد الغذائیة، وکذلک مقابر جماعیة عائدة لمقاتلین أجانب قتلهم جمال معروف بدایة العام الحالی عند اندلاع "حرب الإلغاء الجهادیة" ودفنهم فی بئر موجود فی قریته دیر سنبل، ومن أهم هؤلاء أبو عبد العزیز القطری، الذی اعترف ثائر معروف شقیق جمال معروف المعتقل لدى "النصرة"، بأنه قتله بیده. ویعتبر القطری من أبرز قادة "الجهاد" فی سوریا.
فی هذه الأثناء یحاول جمال معروف بالاشتراک مع صدیقیه قائد "ألویة الأنصار" مثقال العبد الله وقائد "جبهة حق" یوسف حسن حشد المقاتلین، واستقدام تعزیزات إلى ریف حماه الشمالی وریف إدلب الجنوبی، تحضیراً لهجوم مضاد ینوی القیام به لرد الاعتبار لنفسه بعد الخسارة المهینة التی لحقت به مؤخراً.
ورغم أن مصادر "جبهة النصرة" تعبر عن قلقها من قیام جمال معروف بالاتصال بحلفائه فی واشنطن لإقناع التحالف الدولی بمساعدته فی استرجاع الأراضی التی خسرها، إلا أنها لا تبالی کثیراً بالأمر، وتعتبر أن التحالف سیقصفها بکافة الأحوال سواء فی جبل الزاویة أو غیره.