حسان ابراهیم
ان یصل الصهاینة الى حد فقدان الثقة بجیشهم ومؤسساتهم الامنیة، مع الاقرار بقدرة ومنعة ونجاعة اعدائهم. مسألة لا یمکن وصفها بکلمات.. ان یعمد المستوطنون فی شمال فلسطین المحتلة الى اقتناء السلاح وتخزینه من المنازل خوفا من توغل حزب الله و"احتلال" المستوطنات الشمالیة، مسألة لا یمکن فهمها بعباراتها وحسب، بل وربما تستلزم استعراضا من نوع اخر، یفوق الاکتفاء بان الرهبة من حزب الله وقدراته، اوصلت المستوطنین الى فقدان الثقة بالامن الشخصی وبجیشهم.
یزدحم العقل الجمعی "للاسرائیلیین" بمفاهیم ومصطلحات باتوا أسرى لها، وتعبر عن نزعة التفوق والعجرفة والقوة. فـ"اسرائیل" إن أرادت حصل ما أرداته، وإن کان لدیها مصلحة فی شیء، فان هذه المصلحة تتحق وقادرة على تحقیقها، و"اسرائیل" هی منبع المعرفة والاستخبارات والقوة، هی التی تحدد مسارات الامور، وهی قادرة علیها، اما من جهة الاخرین، فلیسوا الّا ادوات ومجامیع بشریة تتلقى المشیئة "الاسرائیلیة"، لا أکثر.
نمت هذه النزعة بعد هزیمة العرب عام 1967. لم یعد للتواضع مکان فی الوعی "الاسرائیلی"، وإن تلقت نکسة عام1973، الا انها لم تستطع انهائها. عادت ونمت لاحقا عام 1982، بعد ان انهت الوجود المؤثر وتهدید منظمة التحریر الفلسطینیة فی لبنان. نکسة اخرى، أکثر تأثیراً، تلقتها "اسرائیل" فی الساحة اللبنانیة، ادت لاحقا الى هزیمة "الجیش الذی لا یقهر" واضطراره للانسحاب من جنوب لبنان عام 2000.
التجربة الاکثر مرارة "لاسرائیل" بجیشها ومستوطنیها، والتی وصلت الى حد الصدمة، تلقتها عام 2006. بعد أن فشلت کلّ من المؤسسة السیاسیة والامنیة بتحقیق أهداف الحرب على حزب الله. ومنذ ذلک الوقت، اختلف المشهد کثیرا، رغم کل الجهود المبذولة لاعادة ترمیم صورة "اسرائیل" المقتدرة والتی تحدد مسارات الشعوب من حولها بحسب ارادتها ومصلحتها.
أهمیة ما حدث عام 2006، یفوق القدرة على توصیفه. قدرات حزب الله الحالیة، وما یقر به "الاسرائیلیون" من قدرة غیر مسبوقة، تشهد على تأثیر خاص فی نفوس المستوطنین، وصل الى حدود لم تکن قائمة فی الماضی، وهی تضاهی او تزید، على نظرة ما قبل نشوء الدولة الصهیونیة فی المنطقة.
ویکفی ان یشار الى ان اللغة العبریة نفسها، التی یتحدث بها المستوطنون فی فلسطین المحتلة، باعتبارها کغیرها من اللغات تصقل الوعی وتأطره ضمن مفاهیم جامعة، کما تعبر عن الادراک الجمعی للمتحدثین فیها، ترى على سبیل المثال لا الحصر، ان "العمل المتقن والذی لا شائبه فیه"، یشار الیه بالعبریة بکلمتین اثنتین: عمل عبری. اما ما کان غیر صالح ویشوبه الشوائب، فیطلق علیه مصطلح اخر قریب منه: عمل غیر عبری. تعال لیس بعده تعالی.
مثال آخر. فی اللغة العبریة لا یقال سافر الى "اسرائیل"، بل صعد الیها. ومن یسافر من "اسرائیل" الى خارجها، یقال له: نزل الى الخارج. فـ"اسرائیل" و "الاسرائیلیین"، هم منتهى الفکر والمعرفة و"الشطارة" وصاحبة القدرة التی لا یفقوها قدرة. اما الاخرون، فلیسوا بشیء، وإن لم یکونوا حلفاء او تابعین، فلا مکان لهم فی خارطة الوعی والادراک.. مهما علا شأنهم.
وعلى ذلک، یمکن القیاس. ایضا تجاه جیشهم واجهزتهم الامنیة، ینظر "الاسرائیلیون" الى هذه المؤسسات من نفس المنطلق. صحیح ان العرب ساعدوهم فی تکوین هذه النظرة من خلال هزائمهم المتکررة، الا ان الاصل موجود وجرى تنمیته لا اکثر. فإستخبارات "اسرائیل" تدرک کل شیء، ودائما هی تعلم کل شیء. وحداتها العسکریة هی نخبة النخبة قیاسا بای جیش اخر. وتدریبها یصل الى السماء. اما خطط الارکان العامة، فهی موضوعة لای احتمال او سیناریو.. و"نحن جاهزون لمواجهة ای تهدید". هذا هو لسان حال "الاسرائیلیین"، ولسانهم.
هذه هی "اسرائیل"، وهؤلاء هم مستوطنوها. القادرون الفائقون المتنبؤون غیر الفاشلین والمنتصرون دوما. فی مقابل اعداء وضیعین غیر قادرین وغیر مدرکین ولا یفقهون ، وإن حاولوا فشلوا.
من هنا، یجب فهم ما کشف عنه موقع "واللا" الاخباری العبری على الانترنت، الموقع الذی یعد اهم المواقع الاخباریة الصهیونیة، بان مکاتب وزارة الامن الداخلی باتت ممتلئة بطلبات سکان المستوطنات الشمالیة القریبة من الحدود اللبنانیة لرخص حمل السلاح واقتنائه. وایضا من هنا، یجب فهم ما کشفته فی موازاة ذلک، صحیفة یدیعوت احرونوت من ان قرارا صدر عن الجهات المسؤولة عن حمایة المستوطنات، بضرورة افراغ مخازن الطواریء المعدة للحمایة الذاتیة فی المستوطنات، وتوزیعها على المستوطنین.
هذه الوقائع تشیر الى ادراک وتوجه وثقة من نوع اخر:
اولا.. ان تهدید حزب الله وقدراته ووسائله القتالیة المختلفة والمتنوعة، بات خارج القدرة على الاحتواء وخارج محاولات المؤسسة العسکریة والسیاسیة لطمأنة المستوطنین. الجهود المبذولة فی السنوات الماضیة لاعادة ترمیم مکانة وقدرة الجیش "الاسرائیلی" فی نفوس المستوطنین لم تعد تجد نفعا.. الحدیث عن الجهوزیة والتدریب والوسائل القتالیة والاجراءات العسکریة والتدابیر والاحتراز، هو خارج القدرة على طمأنة المستوطنین. وبعبارة اخرى، ما کان مقتصرا فقط على المسؤولین الصهاینة، حیال قدرة حزب الله وتهدیده، لم یعد حکرا علیهم، بل یتشارک المستوطنون معهم فی تلمسه وتلمس خطورته الى حد غیر مسبوق.
ثانیا.. قدرة الردع الاسرائیلیة لم تتآکل لدى الجانب الثانی من الحدود، ای لدى حزب الله وجمهوره، بل فی وعی الاسرائیلیین انفسهم. واقسى ما یمکن ان یصل الیه الصهاینة هی تآکل ردع جیشهم فی وعی اعدائهم، وایضا فی وعیهم هم انفسهم.. الامر الذی لا یفضی فقط الى تسلیح ذاتی، کما یجری حالیا جراء فوبیا "احتلال الجلیل"، بل وربما ایضا الهروب من المواجهة المفترضة وبشکل مسبق.. وهذا ما بدأت تباشیره تطل على الاسرائیلیین، وذلک عبر اعراب عدد من المستوطنین، کما اشارت التقاریر العبریة مؤخرا، عن نیة الانتقال من الشمال الى الجنوب، درءا "للشر الآتی من الشمال".
ثالثا.. فقد المستوطنون الصهاینة ثقتهم بجیشهم وبمؤسستهم الامنیة، وبعبارة من الاحتیاط، تقلصت الثقة الى حد غیر مسبوق. لم یعد جیش الاحتلال "البقرة المقدسة" التی لا تمس، والایقونة الجامعة القادرة على جلب الامن وتوفیر الردود لمواجهة التهدیدات. لم تعد المقولة التی یرددها قادة الجیش "الاسرائیلی": جاهزون لمواجهة التهدیدات، تنفع بعد الان.. واذا فقد المستوطنون ثقتهم بإمکانات جیشهم، فهی اشارة الى بدء عصر جدید لدى الصهاینة، ینبیء بالاسوأ من ناحیتهم.
رابعا.. تهدید حزب الله لم یعد تهدیدا نظریا فی وعی المستوطنین. بات تهدیدا ملموسا، لیس على مقاتلی جیش الاحتلال فی الجبهات، فی حال نشوب المواجهة الکبرى، بل ایضا فی حدائقهم الخلفیة وداخل منازلهم. ینطر الاسرائیلییون، مکانیا وزمنیا، لخطر حزب الله على انه خطر باتجاه جبهتین اثنتین، جبهة القتال المباشرة، والجبهة الداخلیة التی تغنى الاسرائیلیون طویلا بانها آمنة فی أی مواجهة مع الاعداء، بل وعلیها صدر أهم مبدأ من النظریة الامنیة الاسرائیلیة: نقل المعرکة الى ارض العدو. وما حصل هنا، یشیر الى نقل المعرکة الى ساحة الاحتلال نفسه.
خامسا.. لم تعد مسألة الخشیة من حزب الله وتهدیده، تتعلق بمواجهة عسکریة قد تحمل فی طیاتها وسیاقها، ضررا محتملا للمستوطنین واملاکهم وارواحهم. بل هی ذات وجه زمنی من نوع اخر، اضافة الى الوجه المکانی. الحرب مع حزب الله لا تقتصر کما کان یقدر الصهاینة على مواجهة من شأنها ان تبعد المواجهة التی تتبعها مستقبلا لسنوات. بل قائمة دوما وهی مستمرة ومتواصلة. الخشیة هنا غیر مرتبطة بزمن القتال، بل فی ای زمن، یوما بعد یوم، اذ بحسب ما تشیر التقاریر الاسرائیلیة المنشورة اخیرا، یقول المستوطنون بان التهدید قد یأتی فجأة، بلا مقدمات، "ننام على خیر، ونصبح على احتلال".
سادسا.. ردد المستوطنون، فی معرض عرضهم للاسباب الموجبة لاقتناء السلاح، مقولة "ان لم اکن لنفسی فمن لی". مرت هذه العبارة فی الاعلام العربی بلا تعلیقات. وهذه العبارة هی عبارة توراتیة تلمودیة، یرددها الاسرائیلیون فی صلواتهم الخاصة وادعیتهم، وهی تعود الى حقبة الزمن الغابر بحسب اساطیرهم، وتفید بان لا شیء فی الکون، وحتى لدى الجماعة نفسها، بقادرة على حمایة الفرد منهم.. قیلت لحظة الشتات فی الصحراء المصریة، بعد اختفاء النبی موسى علیه السلام، بحسب الروایة التوراتیة، وفقدان الجماعة للقیادة والشعور بالامن والثقة بقدرة من یتولى القیادة من بعده على توفیر الامن والاستقرار والخلاص.
فقدان المستوطنین للثقة بجیشهم، فی موازاة ارتفاع منسوب الخشیة من حزب الله وقدراته.. مسألة ذات دلالات لا یمکن حصرها.. الا ان اهمها ان مقولة "الجیش الذی لا یقهر" قد سقطت بالفعل. هذه المرة لیس فی نفوس حزب الله ومریدیه وجمهوره، بل ایضا لدى الصهاینة انفسهم.
المصدر: موقع العهد الإخباری